
لم ينقطع اهتمام الباحثين بتاريخ
مصر قديماً وحديثاً، فقد تناولت الرسائل العلمية والدراسات المتخصصة جوانبها
السياسية والاجتماعية والثقافية بالتحليل الدقيق، ومع ذلك تبقى مصر دائماً موضوعاً
خصباً للبحث لا تنضب آفاقه، فهي بحق بحرٌ عميق يغري كل غواص بالاقتراب منه،
ومحاولة كشف أسراره. وإذا كانت الشخصية المصرية قد استأثرت بعناية كثير من
الدارسين، فإنها لم تَسلم من محاولات التفسير القاصرة التي أوقعتها أحياناً في
شَرَك التبسيط أو الإجحاف.
لقد عرفت مصر عبر تاريخها الطويل
تيارات فكرية متعددة، بعضها أصيل وبعضها وافد من وراء الحدود، خصوصاً منذ أواخر
القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حين بدأت الأفكار الغربية تجد طريقها
إلى أرض النيل. غير أنّ المصري لم يكن يوماً تابعاً مقلِّداً؛ بل استوعب هذه
المؤثرات ومزجها بروحه الشرقية ليصوغ منها فكراً جديداً متفرّداً، على خلاف كثير
من الأمم الشرقية الأخرى التي عجزت عن التكيّف أو الاستثمار الخلاق لتلك الأفكار.
وتبرز الماسونية هنا بوصفها واحدة
من أكثر الظواهر الفكرية والاجتماعية إثارة للجدل في مصر الحديثة، فقد دخلت البلاد
مع الحملة الفرنسية، تحمل أهدافاً سياسية واقتصادية واجتماعية، لتخدم مشروع فرنسا
في الشرق وتترجم طموحات الماسونية العالمية إلى واقع ملموس. لكنّها سرعان ما اتخذت
في مصر مساراً متشابكاً، إذ امتزجت فيها الرموز الغربية بالتقاليد الشرقية، وانضوت
تحت لوائها شخصيات بارزة من مختلف الجنسيات: مصريون ويونانيون، إيطاليون وفرنسيون،
بريطانيون وألمان وشوام، اجتمعوا جميعاً في محافلها على اختلاف أصولهم وتوجهاتهم.
وقد عرفت الماسونية في مصر تناقضات
لافتة، فهي تارة تساند الحركة الوطنية، وتارة أخرى تتحول إلى أداة تخدم السياسات
الغربية وتعمل كطابور خامس. ففي محافلها جلس الوطني إلى جانب المحتل، والمعارض
بجوار المؤيد، كما شارك بعض أعضائها في مقاومة الاستعمار بينما انخرط آخرون في
خدمة مشاريعه. ولعل هذه التناقضات هي التي أضفت على تاريخ الماسونية ذلك الغموض
الذي ما زال يثير آلاف التساؤلات حتى اليوم.
إنّ ما يميز دراسة الماسونية في
مصر هو ندرة الوثائق الأصلية وغياب الرؤية العلمية الشاملة التي تجمع بين مختلف
أبعادها. فمعظم ما كُتب عنها جاء متأثراً بخطاب ديني رافض، بعيد عن الموضوعية، مما
جعل مهمة الباحث محفوفة بالصعاب. لذلك تسعى هذه الدراسة إلى سدّ بعض هذه الفجوة،
عبر استعراض نشأة الماسونية في مصر، ومراحل تكوينها، وتوزيع محافلها، وصولاً إلى
تأسيس "الشرق الأعظم الماسوني لمصر والسودان" الذي شكّل أداةً بيد
النفوذ البريطاني. كما تتناول الدراسة نشاط الماسونية في مجالات السياسة والفكر
والفن، وعلاقتها بحركة التعليم والصحافة، فضلاً عن صلاتها بالمحافل الأجنبية
وأشكال التمويل والتكريس داخلها.
ورغم محدودية الوثائق، حاولت هذه
الدراسة قدر المستطاع إلقاء الضوء على نشاط الماسونية في الفترات الغامضة، ولا
سيما خلال الأربعينيات وحتى ثورة يوليو 1952، حين اشتد الهجوم عليها بعد حرب
فلسطين. وما هذه الصفحات إلا محاولة جادة لإزاحة الستار عن إحدى الظواهر الأكثر
تعقيداً في تاريخ مصر الحديث، علّها تفتح الباب لمزيد من البحث والكشف في المستقبل.





