د. وائل
إبراهيم الدسوقي..
رحبت دولة الإمارات العربية المتحدة باعتماد
مجلس الأمن قراره بتجديد ولاية بعثة "يونيتامس" المتكاملة للمساعدة
الانتقالية في السودان، في جلسته التي انعقدت في 3 يونيو الجاري. وقد أكدت أبوظبي على
الحاجة إلى دعم السودان في سعيه إلى تحقيق السلام والأمن، ومعالجة الظروف
الاقتصادية التي تؤثر بشكل خاص في الشعب السوداني الشقيق.
وكانت الإمارات قد أكدت في بيانها أمام المجلس
خلال جلسة بشأن بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان
يوم 24 مايو الماضي على أهمية الجهود المشتركة لبعثة يونيتامس والاتحاد الإفريقي
في تيسير المحادثات السودانية - السودانية التي انطلقت مؤخرا.
تلك المواقف الإماراتية النبيلة تجاه هذا البلد الشقيق ليست وليدة اليوم،
ولا حتى من قبل المسئولية السياسية الإقليمية التي تقع على عاتق الإمارات ومصر منذ
عقود، لكنها نتاج وصايا المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
بالسودان والسودانيين، فتاريخيا يعد السودان من أوائل الدول التي أقامت معها دولة
الإمارات علاقات ودية، سياسية واقتصادية وثقافية مختلفة.
لقد كان حظ
الشاب أحمد عوض الكريم، موظف التراخيص ببلدية أم درمان السودانية عظيما حينما تعرف
على الشيخ زايد في مطلع ستينيات القرن العشرين، وقد شعرا منذ اللحظة الأولى
للقائهما بالألفة والمودة التي ازدادت بينهما بمرور الوقت، فلم يكن شيخنا متكبرا
مغرورا يترفع عن صداقة موظف بلدية صغير، فقربه إليه ليصبح رفيقه وعونه في سبيل
بناء الدولة التي كان يحلم بها.
تولى الشيخ زايد
مسئولية إمارة أبوظبي في أغسطس 1966، ولم تكن إدارة الإمارة جديدة عليه، فقد كان
يديرها إلى جانب شقيقه الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، منذ مايو عام
1962، وقد سعى إلى ضبط أوضاع الإمارة من خلال برنامج تنموي متكامل، استطاع من
خلاله تحقيق إصلاحات عظيمة كانت مثالا يحتذى به في كافة أرجاء الخليج العربي، وكان
تركيزه ينصب آنذاك على تطوير قطاعات التعليم والصحة والإسكان، فضلا عن تخطيط
إمارته على نسق حديث وعصري. وساعده في ذلك نتاج تلك الثروة النفطية المكتشفة
حديثا، فقد كانت أبوظبي أولى الإمارات التي قامت بتصدير النفط عام 1962، مما جعلها
تستغني عن دعم الكويت لها، لتبدأ عصرا جديدا من الكفاية الذاتية.
توجه شيخنا إلى
السودان لكي يقف على مدى تفوق رجاله في مجال الخدمة المدنية وتخطيط المدن، خاصة وهو
يعرف أن بريطانيا تركت للسودان أفضل نظام للخدمة المدنية بمستعمراتنا على الإطلاق.
وهناك ازدادت أواصر الصداقة بينه وبين موظف البلدية المتميز أحمد عوض الكريم، وعرض
عليه الذهاب معه إلى الإمارات، وشجعه وحفز همته ووعده بأن الإمارات لها من
المستقبل ما يرفع مكانته فيها مع الوقت.
لم يتردد
"أحمد" وقبل عرض شيخنا، الذي تحمس لذلك بعد أن رأى ما في السودان من
إدارة متميزة. كما تعرف أيضا الشيخ زايد على موظف سوداني آخر اسمه "كمال
حمزة" فأوصى فيما بعد بأن يتولى مهام البلدية في دبي، وهو الذي ارتبط بمقولته
الشهيرة "يا كمال.. أبغي أبوظبي تصير مثل الخرطوم"، فكان له أفضل مما
أمر.
يذكر الكاتب
والمؤرخ السوداني محمد المصطفى حسن، أنه حينما ذهب الشاب أحمد إلى أبوظبي وجد أن
الأمر يحتاج إلى معونة رؤسائه وزملائه في السودان، لأن مشيخات الخليج كانت في طور
التكوين إداريا مع تفجر الثروات البترولية الناشئة، وتحتاج إلى بنية تحتية خاصة،
ونظام إداري محترف، وبالفعل استعان برؤساء الإدارات بالسودان وتشاور معهم، كما
اتصل بكبار مخططي المدن في أوروبا لتخطيط الإمارة، ووضع خطط تطورها المستقبلي على
أساس علمي متين.
ولما تولى
الشيخ زايد مسئولية إمارة أبوظبي بشكل منفرد، استقدم بمعاونة أحمد الكريم آلاف الشباب للعمل من مختلف الجنسيات والديانات، وكانت الغلبة فيهم
للسودانيين، واستمر في منصبه كأول مدير عام لبلدية أبوظبي منذ أواسط الستينيات إلى
أن تجاوز السبعين من العمر. وعندما كان الشيخ زايد على فراش الموت أوصى أبناءه
وأهله بالاستئثار بأحمد، والتشاور معه في كل كبيرة وصغيرة.
وحينما تأسست دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971، تطورت العلاقات بين
البلدين بشكل ملحوظ، فكان الرئيس السوداني "جعفر نميري" هو أول رئيس
عربي يزور الدولة الجديدة. وفي المقابل رد شيخنا زيارته قبل عام من حرب أكتوبر
المجيدة، وقام برحلة إلى السودان ابتعد خلالها كل البعد عن الأعراف الدبلوماسية
المتبعة، فكان يعتبرها بلده، كما كان يعتبر الإمارات بلدا لكل السودانيين. وكانت
أول زيارة له خارج البلاد بعد تأسيس الاتحاد.
توجه الشيخ زايد فور وصوله إلى حظيرة الدندر وكردفان، والتقى بالبدو ليستمع
منهم إلى القصائد الشعرية والأهازيج والاستمتاع بفنونهم، فأحبه أهل السودان
واعتبروه أحدهم. وقد رافقه في رحلته كل من الصحفي اللبناني إلياس فريحة رئيس تحرير
مجلة الصياد البيروتية والمعروفة بمواقفها المؤيدة للناصرية، كذلك أحمد خليفة
السويدي وزير الخارجية وقتها، وهو من بواكير الكوادر الخليجية الذين درسوا بمصر
وأعجبوا بتجربتها.
وقد تطورت العلاقات الإماراتية السودانية كثيرا بعد تلك الزيارة، واستمر
معها الاستعانة بكوادر سودانية عملت بجد في تطوير البنية التحتية للإمارات، مثل
الخبير السوداني الدكتور البدري عمر إلياس مدير تخطيط المدن بالعين، كذلك
الاستعانة بخبرات قانونية مثل المستشار القانوني مدير وزارة العدل صالح فرح عبد
الرحمن.
كما حرصت قيادتي البلدين على تطوير وتنمية علاقات التعاون بما يلبي ويحقق
مصالح الشعبين، فأمر الشيخ زايد بالبدء في تنفيذ مشروع طريق (هيا بورتسودان)، الذي
يربط ولايات السودان المختلفة بمينائها الرئيسي، ثم توالت المشاريع الخيرية
والاستثمارية، مع تبادل الخبرات في مجالات التواصل الإنساني والتعاون القضائي
وغيرها. فتأسست أول شركة سودانية إماراتية عام 1975، وهي شركة الإمارات والسودان
للاستثمار، وتعد الشركة الأم لعدة شركات خرجت منها، مثل شركة الإمارات والبحر
الأحمر للاستثمار.
وبناء على البيانات الصادرة عن سفارة الإمارات بالخرطوم، يتضح أنه من بين
المشاريع التي أنجزت في السودان عقب زيارة الشيخ زايد، وديعة لبنكه المركزي لمدة
عام بقيمة 10 ملايين دولار، ومنحة باسمه مقدارها 94 مليون دولار لتمويل طريق هيا
سواكن بورتسودان، الذي تم افتتاحه عام 1979، ثم قروض لمشاريع كثيرة مثل مشروع غزل
الحاج عبد الله عام 1976، وسكك حديد السودان عام 1977، ومطار الخرطوم عام 1980.
وهكذا، بدأت العلاقات السودانية
الإماراتية منذ بواكير عقد الستينيات من القرن العشرين، وقد شملت التواصل الثقافي
والرياضي والفني، بما شجع الجالية السودانية على تأسيس الجمعيات وإقامة المهرجانات
الفنية التي تعبر عن بيئتهم الأصلية، وغيرها. وتعتبر الإمارات بالنسبة للسودانيين
وجهة مفضلة للسفر لأغراض السياحة والتجارة. كما تعتبر من بين
أهم الدول المضيفة لجالية سودانية ذات كفاءة وخبرة عالية، وهي جالية مرحب بها
وتحظي بالتقدير والاحترام.
