د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
على نحو مفاجئ قررت بريطانيا الانسحاب من ساحل الخليج العربي عام 1968، بجدول زمني تقرر أن ينتهي في عام 1971. كانت دوافع اتخاذ هذا القرار عديدة، من أبرزها التزايد الواضح للوجود الأمريكي بالخليج، والذي اتبع سياسة الباب المفتوح فيما يتعلق بمناطق النفط، كذلك تنامي الوعي القومي بين أبناء الخليج العربي، بالإضافة إلى النشاط السوفيتي، وتدهور اقتصاد بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى ضوء تلك المستجدات تقرر الدعوة إلى تأسيس اتحاد خليجي بقيادة كل من المغفور لهما أصحاب السمو، شيخ أبوظبي "زايد بن سلطان آل نهيان"، وشيخ دبي "راشد بن سعيد آل مكتوم". وكان لابد أن يضمنا موقف العالم من حولهما تجاه الاتحاد الجديد، وأصبحت بريطانيا من ضمن القوى التي نظرا إليها باهتمام، فتعددت زياراتهما لها في عام 1969، فكانت أولى الزيارات التي جمعتهما بملكة بريطانيا "إليزابيث الثانية" في شهر يوليو، وكان يصحبهما في تلك الجولة سمو الشيخ "محمد بن راشد آل مكتوم". وقد قامت الملكة باستقبالهم في قصر بكنجهام العريق كضيوف من أصحاب المقام الرفيع، ثم توالت فيما بعد زيارات الشيخ راشد خلال الفترة التي عاصرت مباحثات تأسيس الدولة.
وفي العام 1979، قررت "إليزابيث
الثانية" القيام بزيارة الإمارات التي لم يكد يمر على تأسيسها ثماني سنوات،
ضمن جولتها الخليجية، وكان نبأ قرب وصولها قد وصل إلى أبوظبي الإمارات، فخرجوا عن
بكرة أبيهم في مشهد مهيب إلى الميناء في انتظار الباخرة الملكية
"بريتانيا" التي تحمل ملكة بريطانيا. رفع الأهالي لافتات الترحيب بضيفة
دولتهم، بقيادة المغفور له سمو الشيخ "زايد" الذي كان في استقبالها معهم
وبرفقته المغفور له الشيخ "راشد" نائب رئيس الدولة حاكم دبي، مع حكام
الإمارات الخمسة الأخرى، أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد، أصحاب السمو: الشيخ
"سلطان بن محمد القاسمي" حاكم الشارقة، والشيخ "صقر بن محمد
القاسمي" حاكم رأس الخيمة، والشيخ "حمد بن محمد الشرقي" حاكم
الفجيرة، والشيخ "راشد بن أحمد المعلا" ولي عهد أم القيوين، والشيخ
"حميد بن راشد النعيمي" ولي عهد عجمان. بالإضافة إلى لفيف من الوزراء
والمسئولين ورجال الأعمال.
رست الباخرة الملكية "بريتانيا" في
العاشرة من صباح يوم 24 فبراير عام 1979، لتنزل منها الملكة مع عدد من الوزراء
والقادة البريطانيين، وقد توجه إليها الشيخ "زايد" للبدء في مراسم
الاستقبال، فيتلقيا باقتي زهور من طفلتين صغيرتين، ويبدأ السادة الوزراء في تحية
الملكة ومصافحتها، وعزف السلام الوطني.
بعد انتهاء المراسم شقت سيارة الشيخ "زايد"
الشارع الرئيسي في أبوظبي برفقة ضيفة الإمارات وسط حشود المواطنين الذين كانوا
يهللون فرحا مرحبين بها وهم يحملون اللافتات والأعلام، وقد لاح في الأفق منطاد
تابع للبحرية البريطانية يطوف في سماء العاصمة بالقرب من الشاطئ. واستمر الموكب في
شق أبوظبي حتى وصل إلى إلى فندق مريديان الذي افتتحته الملكة آنذاك وكانت أول
ضيوفه.
كانت هذه الزيارة من الأهمية بحيث عملت الدولة
الجديدة على تكريس كل إمكانياتها لإنجاحها، وإظهار الإمارات نفسها أمام العالم
بمظهر حضاري براق، فهي أول سيدة ذات شأن مرموق تزور تلك البقعة من أرض الخليج،
والتي لم يكن للمرأة فيها شأن في حقل السياسة والحكم، وبذلك تظهر الإمارات في أعين
العالم كله بصورة حضارية تحترم المرأة. كذلك رغبة الشيخ "زايد" في فتح
صفحة جديدة مع بريطانيا التي كانت تحتل أرض الخليج منذ زمن قصير، وهو أمر مهم لفتح
مجالات الاستثمار والتعاون بين البلدين. فضلا عن أهمية الزيارة بالنسبة للحكومة
البريطانية التي أرادت محو ذلك التاريخ البغيض لسياستها في المنطقة والاستفادة من
نفط الخليج بطرق شرعية يستفيد منها الطرفان، فقررت الملكة القيام بجولة خليجية بدأت بالكويت في 12 فبراير، مرورا بالإمارات العربية المتحدة في 24 فبراير،
ثم عُمان في 27 فبراير. وقد وصف المراقبون زيارتها للإمارات بأنها "سوف تعمل على تعزيز
علاقات بريطانيا مع الدولة الجديدة، وتزيد من إمكانات التعاون المتبادل بين
البلدين".
استغرقت زيارة الملكة للإمارات ثلاثة أيام، زارت خلال اليوم الأول مستشفى
الكورنيش والمدرسة البريطانية، ثم اجتمعت بشكل خاص مع الشيخة "فاطمة"
زوجة الشيخ "زايد"، كما استعرض رئيس الدولة خلال اللقاءات المتعددة التي
جرت في اليوم الأول في قصر المشرف وفندق مريديان أبوظبي، سبل توطيد العلاقات في
كافة المجالات. وفي المساء دعت الملكة الشيخ "زايد" إلى مأدبة أقيمت على
شرفه في الباخرة الملكية بريتانيا.
وفي اليوم الثاني صحب الشيخ "زايد" الملكة إلى جبل الظنة لزيارة
المنشآت البترولية فيه، وبعد ذلك قام سمو الشيخ "خليفة بن زايد" ولي
العهد آنذاك بتوديعها في أبوظبي، لتستكمل جولتها مع الشيخ "زايد" في مدينة
العين، لترى صورة مشرقة لمستقبل دولة فتية جديدة، تتمثل في جامعة الإمارات، وفي
المشروعات الزراعية والعمرانية والسياحية في المدينة. وحرصت الملكة على دخول إحدى
قاعات المحاضرات بصحبة رئيس الدولة والأمير "فيليب" دوق أدنبرة، والشيخ
"طحنون بن محمد"، ثم استمتعت بمشاهدة سباق للهجن برفقة رئيس الدولة،
الذي قام بدعوتها بعد ذلك إلى مأدبة غداء صحراوية، امتزجت فيها رائحة الشواء مع
أصوات الموسيقى التقليدية ومشاهدة رقصات بدوية متنوعة.
وبعد أن انتهت جولتها في العين ودعها الشيخ "زايد" لتبدأ زيارتها
لدبي، حيث كان في استقبلها بالمطار المغفور له الشيخ "راشد بن سعيد آل
مكتوم" الذي صحب ضيفته في جولة بإمارته، افتتحت خلالها المبنى الجديد
للبلدية، وأزاحت الستار عن لوحة مركز دبي التجاري إيذانا بافتتاحه، كذلك قامت
بافتتاح ميناء جبل علي. ثم حضرت الصلاة في كنيسة الثالوث المقدس. وافتتحت إحدى
محطات تحلية مياه الشرب، ثم قامت برحلة عبر خور دبي بالقوارب الشراعية، للوقوف على
التطور العمراني الملحوظ لدبي آنذاك، وقد قام المواطنون في دبي بركوب زوارقهم
المزينة بالأعلام أثناء مرور الملكة، استقبالا وترحيبا بها. وفي المساء أقيمت
مأدبة عشاء على شرفها، حضرها معظم أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد. وقدمت فيه
"إليزابيث" وسام الفارس الأعظم من الطبقة الأولى لسان جورج وسان مايكل
إلى حاكم دبي، كذلك قدمت الوسام نفسه من الطبقة الثانية إلى الشيخ "مكتوم بن
راشد المكتوم" رئيس الوزراء وولي عهد دبي.
وأخيرا، وبعد أن انتهت ملكة بريطانيا من جولتها في دبي صعدت إلى متن
الباخرة الملكية "بريتانيا"، ووقفت مع الأمير "فيليب" لتحية المودعين
وعلى رأسهم الشيخ "راشد بن سعيد آل مكتوم"، بينما عزفت الموسيقى
النشيدين الوطنيين للبلدين، قبل أن تغادر الإمارات إلى مسقط.
* تم جمع معلومات المقال من مصادر متنوعة، أهمها: قصاصات متنوعة من صحيفة
الاتحاد في فترة الزيارة (25، 26، 27 فبراير 1979)؛ وتقارير عن الزيارة في موقع www.gulfnews.com وموقع www.thenational.ae ؛ بالإضافة إلى ما تم تدويته
عن الزيارة في أرشيف New York Times التاريخي.



