د. وائل إبراهيم الدسوقي..
قد لا تشير لحظة معينة إلى نهاية حرب ما. ويبدو أنه في حالة الحرب
الروسية الأوكرانية، وبعد عدة أشهر من اندلاعها، على عكس ما توقعه كلا
الجانبين، هناك احتمال حقيقي ألا يستطيع أي طرف من طرفي الصراع من تحقيق ما كان يرغب
في تحقيقه. قد لا تتمكن أوكرانيا من طرد القوات الروسية بالكامل من الأراضي التي
احتلتها. من المحتمل أن تكون روسيا غير قادرة على تحقيق هدفها السياسي الرئيسي، بالسيطرة
على أوكرانيا وفرض إرادتها على أوروبا كلها. وبدلا من التوصل إلى حل نهائي، قد
تكون الحرب إيذانا ببدء حقبة جديدة من الصراع تتميز بدورة جديدة من الحروب الروسية
في أوروبا.
وعلى الرغم من أن الحرب كانت خطأ استراتيجيا بالنسبة لروسيا، فمن
المحتمل أن يضر الرئيس "فلاديمير بوتين" نفسه سياسيا إذا اعترف بهذا الخطأ
الفادح.. قبل غزوه لأوكرانيا، كانت روسيا لا تزال على علاقة بأوروبا والولايات
المتحدة الأمريكية، فضلا عن اقتصاد فعال. وكانت أوكرانيا رسميا دولة غير منحازة مع
العديد من الانقسامات الداخلية ونقاط الضعف. ولم تكن هناك خطط وشيكة لتوسيع الناتو
في أي اتجاه. ولكن بعد فترة من المفاوضات العنيدة، دمرت الحرب في أوكرانيا علاقة
روسيا بأوروبا والولايات المتحدة. وسوف يُدمر الاقتصاد الروسي بمرور الوقت، بينما
أوكرانيا تقترب إلى الغرب أكثر.
في تقرير مهم نشرته مجلة "فورين أفيرز" 20 إبريل 2022، عن العواقب
العالمية لصراع روسي أوكراني طويل، ذكر كاتب التقرير أنه قد يكون الوقت في صالح
روسيا، وقد تكون الحرب التي طال أمدها، ومن الممكن أن تستمر من شهور إلى سنوات، هي
نتيجة مقبولة وربما حتى مواتية لموسكو. ستكون ذات عواقب وخيمة لأوكرانيا، التي
ستدمر كدولة. وللغرب، الذي سيواجه سنوات من عدم الاستقرار في أوروبا.
إن اندلاع حرب طويلة الأمد على الصعيد العالمي في ظل الأزمات الحياتية
التي يعاني منها أغلب شعوب العالم، سوف يتسبب في موجات من المجاعات وعدم اليقين
الاقتصادي. كما أنه إذا طالت الحرب في أوكرانيا أكثر من ذلك، فقد يؤدي ذلك إلى
تآكل الدعم المقدم لكييف في المجتمعات الغربية، التي ليست في وضع جيد لتحمل صراعات
عسكرية طاحنة، على عكس سكان روسيا، الذين حركتهم آلة الدعاية الخاصة بالرئيس
الروسي "فلاديمير بوتين" وحشدتهم للاصطفاف إلى جانبه في معركته، وكأنها
معركة سوف تحدد مصير البلاد، بل وفرض مكانتها على الصعيد العالمي.
بالنسبة للغرب لا يكمن التحدي الرئيسي في طبيعة الدعم المقدم
لأوكرانيا، لكن في طبيعة دعم الحرب داخل البلدان التي تدعم أوكرانيا. خاصة بين
المؤيدين والمعارضين للحرب، وبين مؤيدي روسيا وأوكرانيا داخل البلد الواحدة. نحن في
عصر وسائل التواصل الاجتماعي والعاطفة تحركها صورة يمكنها أن تجعل الرأي العام
متقلبا. ولكي تنجح أوكرانيا، يتعين على الرأي العام العالمي التماسك بقوة نيابة
عنها.
لعبة النفس الطويل
من ضمن الأخطاء
التي وقعت فيها روسيا، الاستهانة بصلابة المقاومة وقدرات القوات الأوكرانية
القليلة العدد. فروسيا تنفق ميزانية قيمتها 60 مليار دولار سنويا على الدفاع فقط.
أما ميزانية الدفاع الأوكرانية فلا تتجاوز 4 مليارات دولار سنويا. ومن جهة أخرى
فإن روسيا بالغت في تقدير قوتها، فقد أطلق الرئيس "بوتين" مشروعا طموحا
لتطوير قدرات بلاده العسكرية، وصدق أنه بلغ هذه القوة المفترضة، لكنه فوجئ بعكس
ذلك بعد أيام من بدء حربه ضد أوكرانيا.
في تقرير "فورين أفيرز" يفترض كاتبه أن "بوتين" لديه
أسباب عديدة لعدم إنهاء الحرب التي بدأها. فهو ليس قريبا كفاية من تحقيق أهدافه
الرئيسية حتى الآن. ولم يكن أداء جيوشه جيدا بما يكفي لإجبار أوكرانيا على
الاستسلام الذي كانت القيادة الروسية تتوقع أنه سوف يكون سريعا. كما أن روسيا
بعيدة جدا عن إسقاط الحكومة الأوكرانية كما كانت ترغب.
إخفاقات "بوتن" علنية بشكل مهين. فهذا الانسحاب المفاجئ من
المناطق المحيطة بكييف، ومشاهدة الجيش الروسي للرئيس الأوكراني "فولوديمير
زيلينسكي" وهو يستضيف زوارا أجانب في العاصمة دون الالتفات إلى خطر الروس، ثم
إعادة فتح السفارات، وإغراق السفينة الحربية الروسية "موسكفا" بسبب
الصواريخ الأوكرانية. كل هذه الأمثلة المرئية علنا تحرج روسيا بشدة. بل وتحرج
"بوتن" أمام شعبه الذي وثق فيه وفي خطواته التصعيدية التي انتهت بحرب.
لقد دفع "بوتين" بالفعل ثمنا باهظا لغزوه. ومن وجهة نظره،
فإن أي اتفاق سلام مستقبلي لا يفوز بتنازلات كبيرة من أوكرانيا، سيكون غير متناسب
مع الخسائر في الأرواح، وفقدان العتاد، والعزلة الدولية التي تمر بها روسيا. لن يقبل
"بوتين" بسلام مزعج.
قد تلجأ روسيا إلى حرب استنزاف، لها مزايا عديدة بالنسبة لبوتن. فإذا
كانت النتيجة المرتقبة هي هزيمة روسيا، فإنه يمكنه تأجيل الهزيمة بحرب طويلة الأمد،
وربما حتى تسليم الصراع إلى من يخلفه. وسوف يتيح ذلك لروسيا الوقت لتجنيد وتدريب
مئات الآلاف من الجنود الجدد، على أمل تغيير النتيجة. خاصة إذا ظلت ميزانية الدولة
الروسية مستقرة، لو استمرت مدفوعات الطاقة من أوروبا وأماكن أخرى كما هي. وربما تساعد
حرب الاستنزاف بوتين في ممارسة الضغط على حلف الناتو، خاصة إذا بدأ الدعم
لأوكرانيا في التراجع في الغرب. فمن وجهة نظر "بوتين" أن الديمقراطيات
الغربية غير مستقرة وغير فعالة في أغلب الأحوال. وهو يراهن هنا على التحولات
السياسية في أوروبا والولايات المتحدة مع تزايد ضغوط الحرب بمرور الوقت.
أوكرانيا أيضا لا ترغب في حرب قصيرة
وفقا للاتجاهات
الحالية، يرى المحلل السياسي الهندي "ماج جين كيمهتا" في تقريره بصحيفة "تربيون إنديا" أن أوكرانيا لا تكسب الحرب، بل تتكبد خسائر كبيرة
في بنيتها التحتية، المدنية والعسكرية والسكان والاقتصاد. احتلت روسيا أجزاء كبيرة
من الأراضي الأوكرانية التي ربما تشمل جسرا بريا إلى شبه جزيرة القرم، وربما
الاستيلاء على ميناء أوديسا على البحر الأسود، مما يحد من قدرات أوكرانيا الاقتصادية
والأمنية مستقبلا. وقد يستخدم "بوتين" الأراضي المحتلة حديثا لفرض وقف
إطلاق النار، والتقسيم الفعلي لأوكرانيا. ويتساءل الكاتب، هل سيكون ذلك كافيا لتحديد
انتصار "بوتين" وهزيمة "زيلينسكي"؟
وبالرغم من أن حديث "كيمهتا" يبدو منطقيا، وأن روسيا بفعل
قدراتها العسكرية المتفوقة من الممكن أن تكسب الحرب وتنهيها، لكن لدى أوكرانيا العديد
من الأسباب التي تدعوها لعدم القبول بخطوات روسيا أيا كانت، ولن تقبل إنهاء الحرب وفقا
لشروط روسية. إن أداء الجيش الأوكراني رائع منذ بداية الحرب، في مواجهة هجوم غير
مبرر من قبل إحدى القوى العسكرية الكبرى في العالم، فصدت قواته روسيا في شمال
وشمال شرق البلاد. وخسرت روسيا معركة كييف، ولم تتمكن من تجاوز مدينة ميكولايف
الجنوبية باتجاه أوديسا. وأظهرت أوكرانيا أن المثابرة والروح المعنوية، يمكن أن
تعزز القدرات الدفاعية للجيش. لذلك فإن أوكرانيا لديها فرصة جيدة لتسوية الحرب
بشروط أفضل من التنازلات الكبيرة غير المقبولة التي تريدها موسكو.
وأثارت التقارير الدولية نقطة في غاية الأهمية، وهي أنه سيكون من
الصعب على الحكومة في كييف عدم السعي للحصول على شروط أفضل من خلال المزيد من
التقدم في ساحة المعركة وصد الهجوم الروسي في شرق أوكرانيا. فقد أدى الإصرار
الروسي على استمرار الحرب إلى تعقيد المفاوضات بشأن وقف إطلاق نار محتمل في
المستقبل. لأن روسيا استهدفت المدنيين والبنية التحتية المدنية في جميع أنحاء
أوكرانيا.
وأخيرا، قد يؤدي وقف إطلاق النار بشروط روسية إلى تسليم أوكرانيا بعض
الأراضي التي احتلتها روسيا منذ بدء الغزو في 24 فبراير. وسيشمل ذلك كامل دونباس،
ربما تشمل أيضا مدن خاركيف وماريوبول. وستسعى روسيا أيضا إلى الحصول على تنازلات
أكبر بشأن الوضع العسكري لأوكرانيا. وعلى الرغم من موافقة "زيلينسكي"
بالفعل على عدم الانضمام إلى الناتو، لكن اشتراط روسيا بنزع سلاح القوات
الأوكرانية من شأنه أن يقيد السيادة الأوكرانية. ومن الممكن إذا ما تحقق ذلك، أن
تستأنف روسيا الحرب ضد الجيش الأوكراني منزوع السلاح لإنهاء ما بدأته.
ومن المؤكد أن أي تنازلات سوف تقدمها كييف يجب أن يوافق عليها السكان
الأوكرانيون الذين دفعوا دمائهم من أجل هذه الحرب. خاصة وأن "زيلينسكي" نجح
في توحيد الشعب الأوكراني، وفي حشد الدعم لأوكرانيا دوليا. وأصبحت البلاد أكثر
تماسكا مما كانت عليه قبل الحرب. وإذا كان هناك أي شخص يمكنه إقناع الأوكرانيين
بتسوية تفاوضية، فهو "زيلينسكي" نفسه، وبشروط مقبولة لعامة الناس.
