Responsive Ads Here

السبت، 6 أبريل 2019

على الشاطئ.. فيلم يحكي قصة نهاية الإنسان في عالم مجنون


د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
ضرب الجيش الألباني إيطاليا بهجوم نووي خاطف، واشتدت حدة الحرب مع قصف مصر للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بعد أن زودها الاتحاد السوفيتي بطائرات ذات ذخيرة نووية، لكن مصر بدورها ألقت باللوم على السوفييت، مما أدى إلى ضربة انتقامية ضد روسيا من قبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وحينما حاولت الصين استغلال الفرصة واحتلال المناطق الصناعية الروسية بالقرب من حدودها، رد عليها السوفييت بضربة نووية بالغة الأثر. وهكذا تم تدمير النصف الشمالي عمليا بالسلاح النووي، وتلوث الجو بالغبار الذري، الذي كان يزحف ببطء ليقتل كل أشكال الحياة في نصف الكرة الأرضية الشمالي.
هكذا كانت بداية أحداث رواية صدرت في عام 1957 بعنوان "على الشاطئ" للكاتب الأسترالي، مهندس الطيران بريطاني المولد "تيفيل شوت"، الذي روى للعالم شكلا مختلفا للحرب النووية لم يفكروا فيه، مما تسبب في صدمة كبيرة، فالعالم وفجأة سوف يتبخر كله، ولن يكون له أي وجود.
وتعبير "على الشاطئ" له دلالة خاصة لدى سلاح البحرية الملكي البريطاني، ويطلق حينما يتقاعد أحدهم عن الخدمة، ويخرج إلى الحياة المدنية ليجلس وحيدا على الشاطئ. ونعتقد أنه في الرواية ذو دلالة كبيرة، حيث أصبح العالم كله خارج الخدمة. وقد استعان المؤلف بأبيات من القسم الرابع في قصيدة "ت.س. إليوت" (الرجال الفارغون) كتبها في بداية روايته، وتؤكد هذا الطرح.
في آخر مواقع اللقاء..
نتلمس طريقنا سويا..
في صمت تام..
ونحن مجتمعون على شاطئ النهر الفياض..
بلا رؤيا .. إلا عندما تعود العيون للظهور..
كنجم سرمدي..
أو كزهرة وافرة الأوراق..
في مملكة شفق الموتى.. 
محط آمال الرجال الفارغين وحدهم...
إن العديد من الخبراء يتحدثون كل يوم عن نهاية العالم بعد حرب طاحنة أطلقوا عليها اصطلاحا اسم "الحرب العالمية الثالثة"، ويحاولون طرح سيناريوهات لأسبابها وأحداثها وآثارها، ولكن هل تطلع أحدهم للفكرة التي طرحها "شوت" في روايته، للإجابة على سؤال ماذا لو حدثت الحرب النووية فجأة دون استعداد؟
من المعلوم أن حقبة الخمسينيات من القرن المنصرم شهدت تزايدا ملحوظا في إنتاج أفلام الرعب والوحوش والمغامرات والحروب، تلك التي أقبل عليها الشباب بشكل كبير. هؤلاء الذين كانت أفكارهم حول طرق النجاة بعد الحروب النووية لا تزيد عن خيالات راكدة بإمكانية الاختباء في ملاجئ، ربما يستطيعون بنائها فى فناء منازلهم حينما تلوح في الأفق بوادر الخطر.
كانت رواية "على الشاطئ" مثيرة للإهتمام إلى أبعد الحدود، مما جعلها تحقق مبيعات وصلت إلى مائة ألف نسخة في أسابيع قليلة، حتى تصدرت قوائم الأفضل مبيعا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1957، فضلا عن ما بيع منها في كل أنحاء العالم آنذاك. قدمت صورة قاتمة متشائمة إلى أبعد حدود، حينما قرأها المخرج السينمائي الشهير "ستانلي كرامر"، وجد أنه لا مفر من إنتاجها سينمائيا. وبالفعل تم عرض الفيلم في عام 1959 بنفس عنوان الرواية الأصلية دون تغيير، وهو من وجهة نظري المتواضعة من أعظم أفلام السينما العالمية الهادفة، لأنه استطاع أن يدق أول جرس إنذار حقيقي لمخاطر امتلاك السلاح النووي وتطويره، تحت لافتة (هذا ما حدث للعالم بعد الجنون).
أخيرا تمكن العالم من الإنتحار.. ومن هذه النقطة بدأ الفيلم أحداثه من دون الدخول في تفاصيل إستراتيجية تسرد آلية تدمير العالم، كالتي أسهب "شوت" في سردها بروايته. ولكن فقط استراليا لم تتعرض لذلك، أو على الأقل تأجل مصيرها المحتوم بضعة أشهر، لأن موجة إشعاعية شديدة الأثر كانت تتحرك ببطء، في اتجاه القارة الصغيرة، التي ينتظر أهلها بمزيج من اليأس وبعض الأمل في أن تحدث معجزة. فتبدأ أحداث الفيلم بوصول غواصة أمريكية وحيدة تحمل طاقم وحيد، نجى وحيدا من تلك الكارثة، حينما كان تحت الماء وقت وقوعها، ليستقر على ساحل ميلبورن الاسترالي في انتظار مصيره "على الشاطئ".
لم يتطرق "كرامر" في فيلمه إلى تفاصيل ما حدث في نصف الكرة الشمالي، لأنه لم يهدف إلى إخراج فيلم حركة، كان إنسانيا في المقام الأول.. فمع اقتراب الإشعاع إلى الساحل الاسترالي أصبح كل شخص يتعامل مع الموت الوشيك بطريقته. ولسيادة المبدأ الإنساني القائل بأن "في قمة اليأس قد يولد الأمل"، عكف بعض أبرع علماء استراليا على عمل حسابات دقيقة، أقروا بموجبها ضرورة وجود ناجين في شمال الكرة الأرضية، وافترضوا أن نسبة الإشعاعات أصبحت أقل وقد تكون محتملة، لأن الرياح حملت معظم الغبار الذري إلى النصف الجنوبي من الأرض وهو يتجه إليهم. تخيل العلماء أنه يمكن نقل البعض إلى الشمال لإنقاذ الجنس البشري من الفناء. لكن "جوليان أوسبورن" (فريد أستير) أحد هؤلاء العلماء اعترض على ذلك وقال أنه لا يوجد أحد هناك، ولا يمكن للحياة في أي بقعة من الكرة الأرضية الاستمرار أبدا، وأن مصيرهم المحتوم يقترب أسرع من تصوراتهم. وهكذا، قرروا إيفاد بعثة استكشافية بقيادة "دويت تاورز" (جريجوري بيك) قائد الغواصة الأمريكية الوحيدة، الذي فقد أبنائه وزوجته في الحرب أثناء تواجده تحت الماء، ومعه الضابط حديث التخرج "بيتر هولمز" (أنتوني بيركنز) الذي كان زوجا لـ "ماري" (دونا أندرسون) وأب حديث لـ "جنيفر"، التي ولدت كي لا ترى المستقبل.
كانت مهمة الطاقم التأكد من صحة افتراض العلماء بإمكانية وجود حياة، والبحث عن ناجين في نصف الكرة الأرضية الشمالي. فتحرك "دويت" بطاقمه تاركا "مويرا دافيدسون" (أفا جاردنر) التي تعلقت به في الأسابيع القليلة التي قضاها في ميلبورن. وبعد تحرك الغواصة بقليل يتلقون رسالة غير مفهومة على جهاز التلجراف، يعتقدون بعدها أن هناك بعض الناجين الذين لا يعرفون استخدام الجهاز، فيرسلون أي أصوات عشوائية حتى يحددون موقعهم، وخمن بعضهم بأنه قد يكون طفلا ناجيا، إلا أن أملهم خاب في اكتشاف أحياء بل في استمرار الحياة برمتها، حينما اكتشفوا بعد إيفاد أحدهم إلى الشاطئ، أن المتسبب فى تلك الإشارات كانت زجاجة مياه غازية اشتبكت مع ستارة يحركها الهواء بجوار الجهاز.
وفي الطريق تحقق طاقم الغواصة من عدم وجود ناجين في سان فرانسيسكو وألاسكا، وبعد أن نظر قائدهم من منظار غواصته فلم يجد أي مظاهر للحياة، طلب منه القائد الثاني أن ينظر أفراد الطاقم نظرة أخيرة على بلادهم، فسمح لهم، وقد تناوب كل منهم الرؤية بصمت، وصمتت معهم الموسيقى التصويرية للفيلم تماما، لأن الموقف يعزف نفسه. واحدا تلو الآخر وعلامات الحزن ترتسم على وجوههم. ولكن فجأة يهرب أحدهم من الغواصة.. كان "سوين" أحد الذين ولدوا في سان فرانسيسكو، أراد أن يطمأن على أهله وبيته رغم تأكيدات عدم وجود حياة، فأراد أن يموت معهم. لم يستطع أي منهم مطاردته، فما حدث قد حدث. وفي الصباح يظهر "سوين" على الشاطئ يمسك بسنارة صيد، يقترب القائد بغواصته منه ويشغل مكبر الصوت، ليدور بينهما حديث مليء بمشاعر إنسانية حنونة قاسية:
-         عمت صباحا "سوين".
-         مرحبا أيها الربان. خلت أنكم رحلتم.
-         هل اصطدت أي شيء؟
-         كلا، فقد بدأت لتوي. دائما أفعل ذلك في الخارج هنا.
-         كيف الحال في المدينة؟
-         الجميع موتى. أسرتي فارقت الحياة. لم أنظر كثيرا بعد أن رأيت القليل... كم من الوقت أمامي قبل أن أشعر بأي شيء أيها الربان؟
-         بضعة أيام أو أسبوع. ليس هناك قاعدة.
-         أيها الربان يجب ألا تسيء فهمي عما حدث البارحة. أردت أن أموت في الديار عن مفارقة الحياة في استراليا.

"هذا العمل الفني المتكامل، هو أكثر المحاولات المقنعة لإنذار العالم مما يتم تحضيره لتدمير الجنس البشري والكوكب بأسره". ذلك ما صرح به "ستانلي كرامر" مخرج فيلم "على الشاطئ" ذات مرة، محاولا التعبير عن إعجابه بعمله وخوفه من المستقبل قبل موته عام 2001، دون أن يرى أن العالم لم يأبه لتحذيراته القديمة، وأنه أصيب بالجنون فعليا، وأصبح يقوده حفنة من المجانين.
كان السؤال الدائر دائما في الفيلم هو كيف حدث ذلك؟ كيف أصيب العالم بالجنون فجأة؟ فيسأل أحد ضباط طاقم الغواصة "أوسبورن" العالم الوحيد الذي شاركهم الرحلة.
-        ما قولك أيها البروفيسور. من وجهة نظرك من الذي تسبب في هذه الحرب؟
-       ألبرت أينستين..
-       أنت تمزح؟
-        أتود حقا ان تعرف في اعتقادي من بدأها؟ ولماذا تريد أن تعرف؟
-        لأنك أنت العالم البارز هنا، وتعرف الكثير.
-       حسنا.. من يصدق أن البشر كانوا من الغباء بمكان لتفجير أنفسهم على سطح الكرة الأرضية؟
-       يقاطعه أحدهم: لم نرد الحرب. لم نبدأها. كيف بدأت؟
-     المشكلة أنكم تريدون إجابة بسيطة لا وجود لها.. لقد بدأت الحرب عندما ارتضى البشر بالمبدأ الأحمق أن السلام سيصبح مصانا بالترتيب للدفاع عن أنفسهم بالأسلحة التي عجزوا عن استخدامها من دون الانتحار. الجميع امتلك قنبلة وقنبلة مضادة وقنابل مضادة للمضادة. الأجهزة فاقتنا في النمو. فعجزنا عن السيطرة عليها.. أعلم ما تودون قوله من نظراتكم.. نعم ساعدتهم في صناعتها.. ليساعدني الرب.. ولكن في مكان ما كان يوجد رجل فقير تطلع إلى شاشة الرادار وحسب أنه وجد شيئا، وعلم أنه لو تردد في ألف جزء من الثانية فإن بلاده ستمحي من على الخارطة، لذا فقد كبس الزر (و، و، و،...) حتى أصيب العالم كله بالجنون.
أثار الفيلم ضجة وارتباك في كافة الأوساط، حتى قبل إنتاجه، فالرواية يمكن أن يتم تجاهلها مع الوقت وتبقى في ذهن شريحة محدودة من القراء، لكن الفيلم بطبيعة الحال يمتلك قاعدة جماهيرية ربما تكون أضخم بكثير. لم يكن الساسة يريدون أي تذمر في عالم يرغبون في رسم خطوط سياسته بهدوء. إعترضت وزارة الدفاع الأمريكية على طلبات "كرامر" بتعاونها في الإنتاج، حتى أنها نفت امتلاكها لغواصات نووية، أو على الأقل ما يصلح للمشاركة في التصوير. فقرر مخرج العمل الاستعانة بإمكانيات سلاح البحرية الملكية في استراليا الذي رحب بالمشاركة. فتم تصوير كافة المشاهد الخارجية في جزيرة فيليب الاسترالية.
واستطاع كاتب السيناريو "جون باكستون" أن يختار كل جملة وكل تعبير لأبطال الفيلم، بحيث تكون لها دلالات إنسانية قوية، تصل بالمشاهد إلى الهدف من العمل بأقصر طريق. في الفيلم تتفجر المشاعر الإنسانية بأصعب صورها وأقساها.. حبوب الانتحار التي سوف تقوم الحكومة الاسترالية بتوزيعها على الناس لضمان موت سريع بديلا عن ألم التعرض للغبار الذري، يفعل الضابط الشاب "بيتر" المستحيل لكي يحصل عليها لزوجته وابنته الرضيعة قبل سفره في مهمته، لأنه يحبهما.. يشترك "أوسبورن" في سباق الموت بسيارته، وهو على يقين بموته أثناء عمل شيء يحبه، أو على الأقل تمنى ذلك، لكنه يفوز فيقرر أصلاح سيارته ليتركها للعدم كالجديدة، ويغلق جراج منزله عليه ويقوم بتشغيلها ليتسمم بعادمها، لأنه يحبها.. تداوم "مويرا" على دروس الكتابة والاختزال لتتعلم شيئا ينفعها في مستقبل لا وجود له، لأنها كانت تحب أن تفعل ذلك.. العجزة في المقهي يتحدثون وهم يشربون الخمر بنهم عما سوف يفعلونه في موسم الصيد القادم، فهو موسم ينتظرونه ويحبونه، لكنه لن يأتي.. القائد "دويت" الذي أعجبته "مويرا" لكنه لا يحب أن يخوض معها في علاقة يائسة، لأنه يريد أن يموت مخلصا لزوجته وأبنائه الموتى، محبا لهم.. طاقم الغواصة يقرر الرحيل إلى أمريكا للموت في الديار بدلا من استراليا، فيقرر "دويت" الرحيل مع رجاله احتراما لقرارهم، بدلا من الموت في أحضان "مويرا" التي وقفت "على الشاطئ" تنظر إلى "دويت" وهو يغوص في الأعماق بعيدا عنها لتموت وحيدة..
لم ينجح الفيلم كثيرا في تحقيق إيرادات مثل الرواية الأصلية، لأن الفيلم صدم الجمهور بشكل أكثر قسوة من توقعاته لمستقبل مشرق مليء بالأمل، وعلى الرغم من جماهيريته المحدودة في كل الدول التي عرض فيها، لكنه ترك أثرا عظيما لدى الساسة، مما دفع الأمم المتحدة لتعجيل محادثات نزع السلاح النووي في حينها..
كان هذا الفيلم أكثر تشائما، قاسيا صادما حتى للخبراء الذين كانوا يحذرون من مخاطر امتلاك الأسلحة النووية. لأنه وضع أمام الجميع فكرة واحدة تفيد بأنه إذا كان لدينا أسلحة نووية، فإنها سوف تستخدم عمدا، أو عن طريق الصدفة، الآن أو غدا أو بعد غد، بما لن يسمح لأي كائن حي بالبقاء على قيد الحياة.
والآن، دعوني أسأل القراء الأعزاء، ماذا سوف يحدث للأرض، لو اختفى الإنسان فجأة؟

* نشر في بوابة مؤسسة الأهرام للحضارات 2016