د. وائل إبراهيم الدسوقي..
في الحقيقة مع كل قراءة لعمل من أعمال سمو
الشيخ "سلطان بن محمد القاسمي" حاكم إمارة الشارقة عضو المجلس الأعلى
للاتحاد حفظه الله، يحتار المرء في تصنيفه، وهل هو مؤرخ لأحداث؟ أم باحث في التاريخ؟
أم محقق؟ فمن الصعب أن يجمع أحدهم الوظائف الثلاثة في كتابة التاريخ إلا نادرا.
ومن المعروف أن مدرس وأستاذ التاريخ غير المؤرخ، فلم يكن أساتذتنا الكبار
في أقسام التاريخ مؤرخون، على الرغم من كونهم شيوخا وأساتذة كبار، قاموا بتدريس
التاريخ ومناهجه، وكتبوا فيه المؤلفات الشارحة والمبينة والموضحة. كذلك كاتب
الرواية التاريخية لا يصنف كمؤرخ، ولا يُقدم تاريخا، لأن الرواية التاريخية يمتزج
فيها خيال الروائى مع المادة التاريخية، فيشكلان مزيجا يكون محلا للنقد من زواياه
الأدبية والروائية والفنية، ولذلك لا يُدرج فى عداد المؤرخين، مثل محمد سعيد
العريان أو جورجى زيدان أو العقاد وغيرهم ممن كتبوا الروايات التاريخية. وإنما
يطلق لقب المؤرخ على الطبري وابن الأثير وابن كثير والنويري والمقريزي وابن تغري
بردي والسخاوي والسيوطي وابن إياس والجبرتي والرافعي، وكل من جرى مجراهم في رصد
وقائع التاريخ والتأريخ لها، بل ويجري التمييز في وصفهم إذا تعددت مجالاتهم كما هو
حاصل مثلا بالنسبة للطبري وابن كثير اللذان عملا أيضا بتفسير القرآن وألفا فيه،
وغيرهما ممن عملوا بالفقه أو الأدب فتعددت صفاتهم تبعا لذلك، إلى جوار وصف المؤرخ
الذى وصفوا به، وفي اعتقادي كما سنرى يجري ذلك أيضا على شيخنا سلطان الثقافة.
وتعد أعمال الشيخ سلطان المتنوعة في مجال
التاريخ سجلا تاريخيا لا يمكن إهماله من الدراسة والبحث، وهو أمر يمكن تناوله من
ناحية أكاديمية بحتة، بعيدا عن كونه أحد حكام الإمارات. ففي التاريخ العام كتب عن
"محاكم التفتيش" وهو كتاب حقق فيه لثلاثة وعشرين ملفا لقضايا ضد المسلمين في الأندلس، يتناول محاكم سرية،
تمارس الإعدام والحرق، وأمورا كثيرة في حق المسلمين. كذلك كتابه "فيليب
العربي" والذي يتناول حياة الإمبراطور الروماني "ماركوس يوليوس فيليبس"
وأثره على الحياة السياسية في الإمبراطورية الرومانية. أيضا المؤلف الأيقوني
"نظم الفرائد من سيرة ابن ماجد"، والذي يصحح فيه لجانب مهم من تاريخ
البحار العربي أحمد بن ماجد، وإزالة الكثير من الشوائب التي ألحقها به المستشرقين
الأجانب. ويأتي كتاب "حكم قراقوش، مباحث في حكم التاريخ" على نفس
المنوال، فهو يكشف القناع عن كثير من الزيف الذي أحاط تاريخ قراقوش المفترى عليه.
وجاء كتاب سموه "إني أدين" ليعرض مجموعة من الوثائق الإسبانية التي تعود
إلى منتصف القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، تظهر حقيقة الجرائم التي ارتكبت
بحق المسلمين في الأندلس.
ويبحر الشيخ سلطان بنا في التاريخ القديم في كتابه "زنوبيا ملكة تدمر"،
حيث يبحث فيه عن تاريخ تدمر، وهي مدينة عملت كوسيط للتجارة بين الصين والبحر الأبيض
المتوسط، لنقل التوابل والحرير، فيما عرف بطريق الحرير.
ويستمر سلطان الثقافة في محاولاته لكشف الحقيقة التاريخية بالبحث والتقصي
في كتابه "الحقد الدفين" الذي سرد فيه قصة ألفونسو البوكيركي الذي حمل
أحقاد الحملات الصليبية على أكتافه بعد مشاركته فيها، واتجه إلى الشرق ليهدم
الكعبة وينبش قبر الرسول عليه الصلاة والسلام. وسموه في هذه الأعمال يعد دارسا
للتاريخ ومحللا له بحسه الأكاديمي الذي سار فيه على منهج علمي سليم وصارم.
وفي كتاباته عن الخليج العربي جمع بين مهمة الباحث في التاريخ والمؤرخ، فبعين
الباحث يكتب على سبيل المثال وليس الحصر عن "صراع القوى والتجارة في الخليج
(1620 – 1820)"، "اقتصاد إمارات الساحل العربي في القرن التاسع عشر"،
"القواسم والعدوان البريطاني (1797 – 1820)"، "مراسلات سلاطين
زنجبار"، "وصف قلعة مسقط وقلاع أخرى على ساحل خليج عمان"، "محطة
الشارقة الجوية بين الشرق والغرب"، "التذكرة بالأرحام"، "بيان
الكويت: سيرة حياة الشيخ مبارك الصباح"، "الخليج في الخرائط التاريخية
بين عامي (1478-1861)"، وجزء آخر "بين عامي (1493-1931)"، "رسالة
زعماء الصومال إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي عام 1837"، "جون مالكوم
والقاعدة التجارية البريطانية في الخليج عام 1800"، "العلاقات العمانية
الفرنسية (1715 – 1905)"، "الوثائق العربية العمانية في مراكز الأرشيف
الفرنسية"، "الاحتلال البريطاني لعدن"، "تقسيم الإمبراطورية
العمانية (1856 – 1862)"، وأخيرا كتابه المترجم إلى أكثر من لغة أجنبية "أسطورة
القرصنة العربية في الخليج".
وبعين المؤرخ الذي عاصر العديد من الأحداث التي مرت على إمارة الشارقة، يتناول
كتابه "سيرة مدينة" المنشور في جزئين تاريخ الشارقة، والتطورات السياسية
والاقتصادية التي شكلتها، منذ أن وحد الشيخ "سلطان بن صقر بن راشد" زعيم
القواسم مدينة الشارقة ورأس الخيمة تحت حكمه. وفي الجزء الثاني رصد ما عاناه حكام
الشارقة من معاملة سيئة تعرضوا لها من البريطانيين حتى عام 1951، وهي فترة عاشها
سمو الشيخ سلطان بنفسه نظرا لمولده في يوليو عام 1939. وهو في هذا الكتاب بجزئيه
جمع بين مهمة الباحث في التاريخ والمؤرخ الذي عاصر العديد من أحداث مدينته. كذلك
يلعب شيخنا دور المؤرخ في كتابه "تأسيس وتنظيم قوة شرطة الشارقة"، وفيه يؤرخ
لحدث عاصره بنفسه وربما شارك فيه وهو تأسيس وتنظيم قوة شرطة إمارة الشارقة،
والأحكام المتعلقة بها، وهو سفر ضخم من ستة أجزاء، يتناول المرسوم المتعلق بتنظيم
الشرطة، التجنيد، مهام وصلاحيات أعضاء سلك الشرطة، الانضباط، العقوبات، والجرائم
المتعلقة بأعضاء في سلك الشرطة. وفي كتابه "نشأة الحركة الكشفية في الشارقة"
يؤرخ لبدايات تكوين كشافة الشارقة ونشاطها منذ بداية الخمسينيات، وقد كان الشيخ أحد
أعضائها، حيث شارك في أنشطتها ومهرجاناتها، وهو هنا يعد شاهد عيان يؤرخ لفترة
عاشها في مؤسسة لها كبير الأثر على الشباب في الإمارة.
ولم يهمل سلطان الثقافة تدوين ذكرياته ومذكراته في أكثر من عمل يمثلون في
مجملهم ذاكرة إمارة الشارقة، وهي تعد تأريخا بكل ما في الكلمة من معنى، وهي على
النحو التالي: "حديث الذاكرة (ثلاثة أجزاء)"، "حصاد السنين"،
"سرد الذات". كذلك عمل سلطان الثقافة على تحقيق بعض المخطوطات المهمة
مثل "بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد" وهي المخطوطة التي عثر
عليها شيخنا عن يوميات الرحلة الأولى لفاسكو داغاما إلى الهند، وهي نسخة محفوظة في
المكتبة العامة في مدينة أوبورتو البرتغالية ومنها انطلق التحقيق في (براءة ابن
ماجد) مما لصق به من تهم بشأن إرشاد البرتغاليين إلى الهند. كذلك "رحلة بالغة
الأهمية" ويتضمن واحدة من أبرز المخطوطات التاريخية، وهي المخطوطة الكاملة
لكتاب دَوُارَتى بَارَبوزا 1565م، والتي تسلط الضوء على تاريخ واحدة من بواكير
المعلومات الغربية عن الإمارات.
وهكذا، نجد سمو الشيخ "سلطان بن محمد القاسمي"، حفظه الله،
مؤرخا، باحثا، محققا، راويا للتاريخ، وساردا للذكريات، وهي مهام جسام قل ما وجدت
في شخص واحد يعمل في مجال الدراسات التاريخية، فالعمل في هذا الحقل المهم شاق
للغاية يتطلب من صاحبه أن يكون ملما بجانب واحد أو جانبين على الأكثر، فما أن نجد
أحدهم وقد تمتع قلمه ببراعة الكتابة في كافة الجوانب مثل شيخنا، فيجب علينا أن
نسلط الضوء عليه ونمنحه حقه من التقدير والتبجيل، خدمه للإنسانية وللتاريخ.
