د. وائل إبراهيم الدسوقي..
تناولت الأساطير الإفريقية قصة خلق الأرض والإنسان، وكيف ترك الله العالم
وابتعد عنه بسبب خطيئة البشر. هذه الأفكار جرى تداولها بروايات شفاهية، لأن
الكتابة لم تكن معروفة كثيرا لدى القبائل الإفريقية القديمة. فحفظت في أعماق أجيال
وأجيال حتى تم تسجيلها في النهاية.
الأساطير الإفريقية الخاصة بخلق الأرض ثرية ومتنوعة ومبدعة، وبالرغم من عدم
كونها أدبا خالصا، لكنها تشكل مادة مدهشة للقراءة، مثلها مثل القصص في القرآن والتوراة
والإنجيل. وقد جاء في تقديم "يوللي بيير" لكتاب "أصل الحياة
والموت: أساطير الخلق الإفريقية"، أن بعض الأفكار في أساطير الخلق الإفريقية
ستكون جديدة ومفاجئة للقارئ الذي تربى على التقاليد الإسلامية والمسيحية، ففي
أسطورة "الكونو" على سبيل المثال، يكون الموت هو القوة الأصل في العالم
ويسبق وجود الرب، وعند "المالوزي" يبدو الرب فاقدا للقوة التي تمكنه من
السيطرة على الإنسان.
أما عند "الإيجاو" فإن الإنسان قد قرر بنفسه مصيره الخاص قبل
مجيئه إلى العالم. ويمتلك "الوابانكوا" رؤية خيالية تقول بأن الأرض قد
خُلقت من براز النمل، في حين يعتبر "اليوروبا" الرب مسئولا ومذنبا عن
التشوهات والنواقص التي تلحق بالإنسان. كما أنهم يفسرون وجود أكثر من آلهة متعددة
بوصفها مكونة للوجود الإلهي المفرد.
لقد أنتج خيال الإنسان الإفريقي قصصا عديدة عن كيفية نشأة الوجود والقوى
الخارقة للآلهة، وعن الأبطال والجدود. عبرت هذه القصص عن معتقدات جادة خاصة
بالإنسان والله والأبدية. ومع أنه لا يفترض أخذها حرفيا، فالواجب أن تؤخذ بجدية من
أجل فهم فلسفة وتفكير القدماء، واكتشاف القيم التي تمسكت بها مجتمعاتهم، والوقوف على
صور من أعماق الطبيعة البشرية وأسرارها.
في بداية تسعينيات القرن العشرين اهتم العديد من الكتاب والمفكرين والعلماء
بلاهوتيات ومفاهيم تلك القارة السمراء، عن الله والدين والخلق ومكنونات الإنسان.
ومن المعروف أن المؤرخ البلجيكي رائد علم التاريخ الشفوي الإفريقي "جان فانسينا"، من أهم الذين وضعوا أسس دراسة
هذه الأساطير، فيما عرف بعلم الهيستوريوجرافي.
ويذكر عميد معهد الدراسات القبطية الأسبق الدكتور "أنطون يعقوب
ميخائيل" في كتابه "لاهوتيات إفريقية" أن الأرض في أساطير شعب
يوروبا النيجيري كانت في البدء خربة خالية مغمورة بالماء، وكانت الآلهة تنزل إليها
على خيوط العنكبوت للعب أحيانا. ولم يكن هناك إنسان لعدم وجود أرض يابسة يعيش
عليها. وفي يوم من الأيام دعا "أورون" (عظيم الكائنات لديهم) الإله
الكبير وقال له: إنه يريد أن يخلق أرضا ثابتة، وأعطاه محارة مليئة بالتراب، وحمامة
ودجاجة. فأفرغ التراب منها في بقعة صغيرة، ووضع الحمامة والدجاجة على التراب،
فأخذا ينكشان التراب حتى تغطت معظم مستنقعات الأرض وتكونت اليابسة. وعاد الإله
الكبير ليقدم تقريره لأورون، أرسل الأخير بدوره حربائة للتفتيش على العمل، والتي
أخبرته أن المستنقعات قد ردمت، لكن الأرض ليست جافة، وبعد فترة أرسلها مرة أخرى
فأكدت أن الأرض جفت.
في أسطورة يوروبا، سميت البقعة التي بدأ منها الخلق "إيف" بمعنى
واسعة. والتي أضاف إليها النيجيريين كلمة "إِلّيِ" وتعني البيت أو
المدينة، فأصبحت المدينة الواسعة، تلك التي يقدسها شعب يوروبا تقديسا كبيرا.. وتذكر
معارفهم أن الأرض خلقت في أربعة أيام، وخصص اليوم الخامس لعبادة الإله الكبير،
الذي أرسله الكائن الأعلى أورون إلى الأرض مرة أخرى ليزرع شجر يعطي للناس الغذاء
والثروة، واعطاه نواة شجرة زيت النخيل، فزرعها وزرع ثلاث شجرات أخرى، فأسقط المطر
ليرويها، وبعد ذلك جاءت مرحلة خلق الإنسان، فنشأ الأوائل في السماء ثم أنزلوا على
الأرض، وكان الإله الكبير يصنعهم من تراب الأرض ويشكلهم، ويعطيهم للكائن الأعلى
حتى يمنحهم الحياة.
واختلفت القصة قليلا في مصر، فقد ذكر أقدم سفر تكوين يفسر الوجود ونشأته في
مدينة "أون"، والذي ذكر أنه في البدء كان "نون وجودا وحيدا في
الكون، ونون كان محيطا أزليا مظلما، منه خرج إله الشمس "رع أتوم" بقدرته
الذاتية دون معين، لأنه كان هو كل شيء في الوجود. أوجد العالم من نفسه وذاته. ومن
هذه الذات الإلهية جاء الهواء والندى اللازمين لوجود الكون والكائنات. وبالتقائهما
تكون التراب، أو الأرض "جب" التي فتقها الهواء إلى طبقتين، رفع أحدهما
لتكون سماء "نوت"، ونشأت نتيجة للتفاعل بين عناصر الكون أربعة آلهة من
البشر، هم: أوسير، وإيست، وست، ونفتيس. وكانت مهمتهم إنجاب الذرية، لتعمير الأرض
بالبشر. أما منف غريمة أون، فقد نسبت خلق خلق الوجود وما احتواه إلى
"بتاح" الذي أوجد نفسه بنفسه، وأبدع الكون ومعبوداته وناسه وحيوانه
وديدانه، عن قصد منه ورغبة، وذلك بفكره. فكان سبيله إلى الخلق هو الفكر والكلمة.
وكانت كل الأشياء في علم الخالق بتاح قبل أن يخلقها، وبعد الخلق استراح.
كذلك تعتقد شعوب "البوشونجو" في وسط إفريقيا, أن الأرض في
البداية كانت مظلمة مليئة بالماء، وحينما مرض الإله العظيم "بومبا" تسبب
ألم معدتة في تقيؤه للشمس، التي تسببت بدورها في جفاف بعض الماء على الأرض مما تسبب
في تشكيل اليابسة. وتسبب أيضا ألم معدة "بومبا" في أن يتقيأ القمر والنجوم
والحيوانات، كالنمر والتمساح والسلحفاة, وفي النهاية تقيأ الإنسان.
وفي حوض النيجر حيث يعيش شعب الدوجون، اعتقد الناس أن الإله
"أمما" خلق الأرض كإمرأة وحينما تزوجها أصبحت بذرته كائنة في الماء
والنار والدماء والكلمة. وتمثلت آلية الخلق عندهم بأسطورة الثعبان الذي وجد مياها
آسنة على الأرض، ففتح ممرات لمجاريها، وقنوات للأنهار، وهكذا حصل العالم على
الحياة.بعدها حمل الثعبان الإله الخالق في طول العالم وعرضه، وظهرت الجبال في كل
مكان توقفا فيه. وجعل الخالق الثعبان يلف جسمه حول الأرض ويضع ذيله في فمه، ليصبح
بمثابة حلقة تسند الأرض حتى لا تغوص بأحمالها في المحيط. وعندما يغير الثعبان وضعه
في أي وقت تحدث الزلازل. ويعتقد شعب الدوجون أن الإله الخالق أمر القرود البحرية
بإطعام الثعبان بقضبان من حديد، والخوف كل الخوف لو توقفت القرود عن إطعامه، لأنه
سوف يضطر إلى أكل ذيله، ولن ترتكز الأرض على شيء فتكون نهاية العالم.
في داهومي – بنين حاليا - تختلف القصة كثيرا، فيعتقد شعب "الفون"
أن الكون كرة مستديرة واسعة تشبه ثمرة القرع العسلي "كالاباش"، وهي
مملوءة بالماء الذي تعوم فيه الأرض المنبسطة يحيطها الماء من كل جانب، أما الشمس
والقمر فيعومان في نصف الكالاباش الأعلى. وقد لف ثعبان مقدس جسمه حول الأرض
لتثبيتها وجعلها راسخة.
يؤكد "يعقوب" أن الأرض ترتبط بالعقائد الدينية الإفريقية ارتباطا
وثيقا، والطقوس المتصلة بها تلمس نواحي عدة في الثقافة الإفريقية. فالأرض بالنسبة
للإفريقي ليست مكان سكن أو تربة لإنتاج الطعام وحسب، بل إنها واحدة من القيم
الدينية، والصلة بينها وبين الإنسان صلة عميقة صوفية الطابع، تلعب فيها عقيدة
الأسلاف دورا بارزا، والأسلاف الراقدون في بطنها هم محور هذه الصلة التي لا تنفصم.
وحين يهاجر الإفريقي إلى إقليم جديد، يقوم بتقديم القرابين للآلهة التي تسيطر على
الإقليم الجديد. كائنا من كانوا، ويقدس ذكرى السكان الأقدمين الذين كانوا يعيشون
قبله على الأرض الجديدة، ويعترف بهم أسلافا له، ويتقرب إليهم بالقرابين والذبائح.
وهذا ما فعله الإفريقيون الذين أخذوا عبيدا إلى أمريكا، إذ كانوا يقدمون الذبائح
للأرض والنهر، حيثما يحلون، باسم الهنود الحمر والأمريكيين الذين رقدوا، سواء
الذين عرفوهم أو سبقوهم في امتلاك الأرض.
وقد علق الزعيم الكيني السابق "جومو كنياتا" على هذه العلاقة
بتأكيده أن الأرض عند "الكيكيو" هي أم القبيلة، وترابها يطعم الأطفال
عبر الحياة، وتبقيهم في رضاعتها أرواحا خالدة لا تفنى بعد الممات. والاتصال
بالأسلاف ذخيرة مهمة للقبيلة لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الأرض، حيث يرقدون من
قديم الزمان، ولهذا فالأرض في التراث الإفريقي أقدس من أي شيء فوقها أو في جوفها.
ويتفق الهنود الحمر في أمريكا مع هذا الفكر كثيرا. ففي عام 1852 طلبت حكومة
الولايات المتحدة الأمريكية شراء أراضي في ولاية واشنطن لتوطين المهاجرين. فرد
عليهم الزعيم "سياتل" بأن "كل بقعة في أرضنا مقدسة. نحن جزء من
الأرض وهي جزء منا. جمالها وروائحها العطرة منا ولنا. والأنهار إخوتنا والأرض
أمنا، فهكذا نعلم أولادنا. إلهنا هو إلهكم، والأرض ثمينة عنده، والإضرار بها
احتقار للخالق".
ومن أشهر الأساطير الإفريقية التي تحكي قصة خلق الأرض،
أسطورة "ماوو- ليزا"، وتحكي عن شقيقين متزوجين، ليزا (ذكر) وماوو (أنثى)،
عاشا في نانا بولوكو، وأطلقوا عليهم آلهة الروح، فقد خلقا العالم و جعلاه منظما
خلال ٤ أيام.. في اليوم الاول خلقوا العالم والطبيعة البشرية، وفي الثاني خلقوا الأرض
لتكون مناسبة لحياة الإنسان، وفي الثالث أعطوا للبشر الفكر والحواس واللغة، وفي
اليوم الرابع تلقت البشرية التطور.
وهناك اعتقاد راسخ لدى قبيلة الـ "سو سو" في غينيا، بأن الفرد لا
يملك إلا ما يصنعه بيده، وهكذا تكون الأرض ذات مكانة خاصة، فما صنعها إنسان أو
جماعة، الأرض صانعة نفسها ولا يملكها أحد، ولا تنتقل من يد إلى يد، فهي تملك
نفسها.
الأرض مقدسة عند الإفريقي بشكل خاص، فهي تملؤه إحساسا بالرسوخ والشرف
والعزة والكرامة. وفي رواية "الأرض" تلك الملحمة التي نسجها لنا قلم
"عبد الرحمن الشرقاوي" بعبقرية نادرة، همس بطل روايته "عبد الهادي"
لنفسه ذات ليلة قبل النوم: "لو أن للشيخ الشناوي أرضا يختلط عرقه بترابها. ولو أنه رآها تتشقق من الجفاف
تحت عينيه بعد أن شقي فيها. ورأى أذرته الصغيرة الغضة تذوي كأطفال يموتون. لو عرف
الشيخ الشناوي كل هذا لسكت. لو كان سيدنا يملك قيراطا
واحدا على الأقل. ولو أنه أعمل فيه الفأس، وانحنى عليه وحفر له القنوات. لما اعتقد
أن أمر الله هو الذي حرم القرية من الماء لينعم به الباشا، ولروى أحاديث أخرى".
الكلمات المفتاحية:( الأكثر بحثا على جوجل )
