Responsive Ads Here

الجمعة، 13 أكتوبر 2023

حفلات الخديو إسماعيل للدكتورة قمرات السيد.. مظاهر البهجة وعبء الديون


 د. وائل إبراهيم الدسوقي.. 

عرف عهد "الخديو إسماعيل" بالعظمة والبؤس في مجالي السياسة والمجتمع في الوقت نفسه، بالضبط كما حدث في عهد "محمد علي باشا"، فمنذ توليه حكم مصر في 18 يناير سنة 1863، كان وحده يملك ناصية الأمور في البلاد، وقد عمل على إظهار مصر بمظهر العظمة، فأعاد تشكيل العاصمة من جديد، بتطوير بنيتها التحتية، وشيد الأبنية الحديثة والحدائق والمؤسسات الثقافية، فضلا عن تطوير المنظومة الحكومية وتخصيص مبان جديدة لها، ومن المعروف أن السنوات الأولى لحكمه هي الفترة المضيئة في عهده، ثم بدأت الإخفاقات السياسة والمالية، والارتباك الإداري والاجتماعي، وتفشي الفساد، حتى أصبحت سنة 1879، آخر سنوات حكمه، وذروة معاناة الشعب وبؤسه.

لا ننكر أبدا أن "إسماعيل" هو الذي استكمل المشروع الذي بدأه "محمد علي"، إلا أنه لم يحظ أبدا بعبقرية سلفه. وفي الواقع، فإن مهمته كانت أشمل وأوسع مجالا من مهمة من سبقوه، وأكثر منها خطورة في بعض النواحي، فقد كانت فترته "انتقالية" بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنه بدلا من ترك إرث يفتخر به شعبه، اقتلع أبواب البلاد اقتلاعا لتبقى مفتوحة على مصراعيها، أمام المراقبة المالية الأجنبية التي مهدت للاحتلال.

لقد كانت مصر تحتاج ليد حازمة وحيوية تستخدم بمهارة طاقاتها التي كانت منظمة للغاية في عهد "محمد علي"، ثم أهملت تماما في عهدي عباس وسعيد، حتى أنه عندما تولى "إسماعيل" الحكم، ووفقا للرافعي، كان الدين العام في مصر 11.160.000 جنيه، ولكن سياسة الاقتراض التي اتبعها إسماعيل كوسيلة لتدبير النفقات من بيوت المال الأوروبية، ومن المرابين، قفزت بهذا الرقم إلى 91 مليون جنيه.

ويبدو أن "إسماعيل" كان يفهم موقفه جيدا، فغداة تولية الحكم، أَقام حفل استقبال ضخم لكبار الموظفين المصريين والقناصل، وألقى خطبة قال فيها "إن النظام والاقتصاد في النفقات هما أساس أي إدارة جيدة". ويمكننا اعتبار هذا الحديث بمثابة برنامج وعد شعبه أن يسير عليه، لكنه في الواقع لم ينفذ الجزء الأساسي من برنامجه، فلم يقتصد في الإنفاق وأسقط البلاد في هاوية سحيقة من الديون. فقد كان "إسماعيل" ذا طبيعة مزدوجة، وكان لديه تناقض في ملكاته، بين الذكاء والشخصية، وبين الإدراك والتنفيذ، وكان أكثر الحكام بذخا وترفا. وإلى جانب مشروعاته التحديثية، كان ينفق الكثير من الأموال على حفلاته، شخصية ورسمية. حيث اتسمت فترة حكمه بكثرتها، لأنه اعتبرها إحدى وسائل نقل مظاهر الحضارة الأوروبية إلى مصر.

ومن هنا نستعرض كتاب جديد، مهم ورصين، يتحدث عن عهد "إسماعيل"، ولكن من جانب مختلف قلما تطرق إليه أحد، وهو باكورة أعمال الكاتبة والباحثة المصرية الدكتورة "قمرات السيد حيدر"، الذي صدر في عام 2023 عن مكتبة زهراء الشرق، بعنوان "حفلات الخديو إسماعيل وأثرها على الاقتصاد المصري 1863 – 1879"، نكتشف من خلاله أن إقامة الحفلات الصاخبة ذات الطابع الأسطوري كانت سمة بارزة لعهده، نظرا لتنقله الدائم في صباه بين فيينا وباريس، حيث أتيحت له الفرصة لأن يشاهد الاحتفالات سواء في الأندية أو حفلات البلاط. وحين اعتلى سدة الحكم عمل على محاكاتها، وحرص على نقل هذه المظاهر إلى مصر بعد ولايته. وقد ساعده على ذلك إحاطته بالأوروبيين الذين شجعوه على إقامة الحفلات للظهور بمظهر المتحضر أمام ملوك وأمراء أوروبا، إلى جانب رغبته هو نفسه في الظهور بمظهر الحاكم المستنير الذي يجمع بين طبائع الشرق ومظاهر الغرب.

وكشفت "قمرات" أن "إسماعيل" كان يستغل أي مناسبة لكي يحتفل بها، سواء كانت عامة أو خاصة، مثل احتفاله السنوي بالجلوس على العرش، وعيد ميلاده، وحفلات زواج الأنجال، وحفلات الختان، والحفلات الرسمية. وفي العادة كان يصاحب ذلك إقامة الاحتفالات الموسيقية والمهرجانات والولائم، وتجهيزات الطرق والفنادق والقصور لضيوفه. وإلى جانب طبيعة الخديو التي تميل إلى الإسراف والبذخ، قالت الباحثة إن الدافع خلف معظم تلك الحفلات كان سياسيا في المقام الأول، فقد كان يرغب في عمل علاقات قوية مع الدول الأوروبية، للحصول على دعمها وتأييدها في أثناء سعيه نحو الاستقلال عن الدولة العثمانية.

وقد عرضت "قمرات" لبعض المظاهر الاحتفالية التي اشتهر بها "إسماعيل"، فعلى سبيل المثال، كان يحتفل كل عام في شهر يناير بمناسبة اعتلائه العرش. وكانت القاهرة تتزين في هذا اليوم، وتنتشر في شوارعها مواكب ضخمة وعربات فاخرة، وكان يستقبل بنفسه في سراي عابدين جموع المهنئين من مسئولي الدولة والعسكريين، والقناصل ورجال المال والأعمال. كما كان يحتفل بيوم ميلاده في 31 ديسمبر، حتى أنه أصبح عيدا قوميا ينتظره كل المصريين، لما يشهده من الاحتفالات والمهرجانات والولائم، وتوزيع العطايا والمنح الخديوية. كذلك حرص "إسماعيل" بشدة على ختان أنجاله على الطريقة الإسلامية، وأقام لذلك احتفالا عظيما في سنة 1863، قام خلاله بختان مجمع لبعض أنجاله.

ومن المعروف أن حفل زواج أنجال الخديو "إسماعيل" أخذ شكلا مختلفا، فقد ذكر "الرافعي" أنه بلغ من البهاء والروعة ما جعله سمة مميزة وحديث المجتمع كله، فكان موكب العرائس غاية في الأبهة، يبدأ بإطلاق المدفعية عدة طلقات إيذاناً بالتحرك من القصر العالي، مقر إقامة الوالدة باشا "خوشيار هانم" حتى سراي عابدين، وفي المساء تقام الاحتفالات الموسيقية في سراي الجزيرة. وحددت "قمرات" كميات وأنواع شوار العرائس، الذي اشتمل على مجموعات كبيرة من الحلي والجواهر المرصعة بالألماس، بالإضافة إلى الأواني الذهبية والفضية والمرايا، وأطقم الكهرمان الخالص، المحلاة بالذهب والأحجار الكريمة. ولم يتوقف الأمر عند الحفلات الشخصية، بل كانت الحفلات الرسمية كحفل افتتاح قناة السويس وحفل افتتاح الأوبرا الخديوية، في غاية البهاء والعظمة، بحيث كلفت خزانة الدولة مبالغ طائلة، اضطر الخديو إلى الاستدانة من بيوت المال الأوروبية لتغطية تكاليفها.

وقد كبدت حفلات الخديو "إسماعيل" الخاصة خزانة الدولة خسائر فادحة، فوفقا للوثائق الرسمية بلغت تكاليف زيجات أنجاله نحو عشرة ملايين جنيه، مما كان له تأثير سلبي مباشر على الاقتصاد المصري. ولم يكن الأمر قاصرا على تجهيز العرائس وحفلات العرس فقط، بل شمل أيضا الانشاءات في المناطق المحيطة، فقد عهد الخديو إلى شركة "فيف ليل" الفرنسية عام 1872، بإنشاء كوبري قصر النيل بتكلفة 108 ألف جنيه، لتسهيل مرور المواكب الاحتفالية إلى قصر الجزيرة بصورة أكثر فخامة وبهاء. وإلى جانب قيمة شراء وتصليح مجوهرات العرائس وكانت من الذهب والألماس من الخواجة "كريمر"، وتكاليف الزينة والولائم. ذكرت "قمرات" أن تكلفة جزء من شوار العرائس الذي تم استيراده من الآستانة بلغ نحو 65.655 جنيه (13.131 كيسة/ الكيسة الواحدة تساوي 500 قرش)، كذلك تم إنفاق نحو 5.155 جنيها قيمة الألعاب النارية التي أطلقت في هذه الحفلات.

ومما لا شك فيه أن بذخ إسماعيل، واسرافه في الانفاق على حفلاته، تسبب في زيادة المصروفات العامة، ووفقا للباحث "أحمد غباشي"، فقد بلغت في بعض السنوات ضعف إيرادات الدولة وأحيانا ثلاثة أضعاف، فعلى سبيل المثال بلغت إيرادات الدولة في عام 1868 نحو 5.011.000 جنيها، في حين بلغت المصروفات 6.637.000 جنيها، أي حوالي ثلاثة أضعاف. وهو العام الذي تم فيه الاحتفال بزواج الأميرتين "توحيدة هانم"، و"زبيدة هانم"، وبداية الإعداد لاحتفالات افتتاح قناة السويس في سنة 1869. وبالطبع أثر ذلك كله بشكل مباشر على الخزانة المصرية، ووقوع مصر في الاستدانة من الخارج، وبالتالي كان التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي المصري نتيجة حتمية للأزمة المالية في مصر آنذاك، ومن ثم تم عزل الخديو في 26 يونيو 1879.

لقد أجادت "قمرات السيد"، فعرضت لنا جانبا مهما من جوانب تاريخ الخديو "إسماعيل" بشكل خاص، ومصر عموما. وجمعت في كتابها بين التأريخ للفترة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، بشكل ينم عن تمكنها من كافة التفاصيل التي وردت فيه، بالإضافة إلى استخدامها لمنهج بحث سليم يجمع بين التحليل التاريخي والإحصاء، كما نجحت في تحليل الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة المالية المصرية بسبب بذخ الخديو في احتفالاته الخاصة، مما أخضع النظام المالي المصري آنذاك للوصاية الأجنبية، تحية لها على هذا الجهد الرصين.

 

الكلمات المفتاحية:( الأكثر بحثا على جوجل )

قمرات السيد حيدرالدكتورة قمرات السيد حيدرحفلات الخديو إسماعيلمصرسعر الدولار في مصرمراجعات كتبتاريخ مصر الحديثالانتخابات الرئاسيةمكتبة زهراء الشرق