د. وائل إبراهيم
الدسوقي..
الاختلاف في آراء
الكُتاب يعود في قدر كبير منه إلى اختلاف الطرق والمناهج التي يسلكونها، والتي لا
يتدخل شيء في اختيارها إلا طبيعة المشكلات التي يعالجونها، والمادة التي توفرت ويستندون
إليها في تكوين وجهات النظر حول موضوع بعينه، فيكون مقياس التوفيق في الكتابة بأمرين:
أولهما: دقة تحديد عناصر المنهج ووضوحها. والثاني: اختيار المنهج المناسب لطبيعة
الموضوع المراد الكتابة فيه، ومدى التزام الكاتب به في معالجة قضاياه ومسائله،
ومدى حياديته أو انحيازه.
وفي كل الأحوال،
يجب أن يلتزم الكاتب بعدة عناصر يقوم عليها بناء منهجه، والتي اصطلح على تسميتها
بقواعد المنهج، وهي محكومة بأربعة طرق تشكل مضمون المنهج المتبع، وهي (طريقة الفهم
- طريقة التناول - طريقة المناقشة والتحليل - طريقة تأسيس الأحكام). ويعتقد البعض
أن الكاتب، مع وجود تلك القواعد الصارمة، يجب أن يلتزم بالحياد التام، سواء في
التناول أو عرض النتائج. لكنها فكرة شائعة خاطئة.
وقبل أن نخوض في
نقد هذا الاعتقاد الراسخ الذي يروج له العديد من الأكاديميين، يجب علينا التفريق
بين معنيين، الحياد والموضوعية. فالحياد اصطلاحا يعني عدم الانحياز لرأي على رأي آخر
ولو بشكل مستتر. والموضوعية هي نقل الواقع كما هو دون تزييف للحقائق أو تشكيلها
بعد إخضاعه للعديد من معايير الكتابة.
وللوهلة الأولى يتبادر إلى الذهن أن الحياد هو الموضوعية،
وأن المحايد موضوعي، ولكن ألا تقتضي الموضوعية في كثير من الأحيان اتخاذ موقف معين
دون التزام بالحياد، الذي في حالات كثيرة قد يفضي إلى سلبية الموقف أو عدم الموضوعية؟
وهكذا، فإن التحيز والموضوعية لا يمكن أن يتواجد
إحداهما، من دون الآخر. ولكن الغلبة الكاملة لهذا أو تلك، ربما تعني الابتعاد عن الحقيقة،
تبعا لزاوية الرؤية. ويرى البعض أيضا أن الموضوعية الغير منحازة تستدعي الانتباه كثيرا،
لما تحتوي عليه من شحنة لامبالاة حيال الذاتيات، ولكنها تدفع نحو تبني أرفع القيم،
ذلك أنها تتطلب النزاهة والأخلاق المتجردة عن المصالح الخاصة.
وثمة فكرة شائعة
تجعل الحياد شرطا إلزاميا للموضوعية، وعليه يكون التأكيد على أن الانحياز إلى مسألة
معينة هو دليل على عدم موضوعيتها، ولكن على الرغم من أن الانحياز قد يصل بصاحبه إلى
درجة من عدم الموضوعية، إلا أن الكاتب إذا التزم أثناء عرض وجهة نظره بمنهج سليم،
فقد نقبل حديثه كوجهة نظر مغايرة توضع محل النقد والمناقشة، فنأخذ منه قراءة أخرى
للحدث الذي يحكي عنه، تتشابه إلى حد كبير مع القراءات من خلال السير الذاتية
والتجارب الخاصة. ولذلك فإننا نرى أن عدم الحياد من الأمور التي لا مفر من حدوثها
في الكتابة على عمومها. فالذاتية أحيانا تكون طريقا للموضوعية، والمرور الضروري
للمعرفة عبر الذات يترك آثار هذه الذات وبصماتها في صياغة شكل الكتابة ومضمونها،
مما يجعلنا أمام طرق معالجة ورؤى مختلفة.
وإذا أردنا تبسيط تعريف الموضوعية أكثر، فعلى
سبيل المثال لو تعاملنا مع فكرتين، أحداهما اعتمدت على حجج قوية، والأخرى ضعيفة، فعلينا
هنا ألا نكون محايدين وأن ننحاز إلى الفكرة القوية وندعمها، ولكن بمناقشة الأخرى
وبيان أسباب ضعفها، وبذلك وضعنا الرأيين أمام القارئ مع ترجيح رأينا الخاص. وإذا
كانت الفكرتان لهما نفس القدر من الأهمية ومتعادلتان في تقديم الحجج، فعلينا هنا
أن نأخذ موقفا وسطا. وهكذا لا تؤثر الذاتية على الموضوعية، فقد تصبح شرطا من شروطه.
وبطريقة أخرى، هل
يضمن الحياد عدم تشابه المكتوب في موضوع واحد؟ فمثلا لو عرضنا تاريخ حقبة معينة في
عمل إبداعي أو فكري، فهل الأفضل أن يكتب ثلاثة من الكتاب عنها بحياد تام نابع من
ذلك الالتزام الصارم بعناصر الكتابة، أم أنه يفضل أن يكتب كل منهم وجهة نظره ورأيه
الشخصي إن لزم الأمر لخدمة العمل الذي يهدف إلى إخراجه للقارئ، سواء كان كتابا
أكاديميا أو عملا روائيا أو شعرا، وغير ذلك من ألوان الكتابة، فتتكون أمامنا صور مختلفة
عن الحدث (مع، وضد، أو محايد).
وهكذا نصل إلى
نتيجة مهمة، مفادها أننا مهما اختلفنا في الرؤى حول تلك الإشكالية الجدلية
الشائكة، لكن هناك علاقة وطيدة بين معيار الحياد والموضعية، وهي ضرورة الالتزام بقواعد
سلوك وآداب الكتابة مهما كانت الاختلافات والخلافات.
