د. وائل إبراهيم
الدسوقي..
منذ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2022، والكتل النيابية تفشل في استبدال الرئيس
المنتهية ولايته "ميشال عون"، ففي الجلسة الانتخابية الحادية عشر
لاختيار الرئيس التي عقدت في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، حصل "ميشال معوض"،
الذي يفضله المعسكر المناهض لحزب الله، على 34 من أصل 86 صوتا مطلوبا للفوز
بالجولة الأولى، وهو أضعف أداء له حتى الآن في مواجهة التحالف الموالي لحزب الله،
الذي يفتقر إلى الإجماع الداخلي، لكنه يستطيع أن يعيق العملية السياسية برمتها. وفي
اعتقادنا أنه في غياب تسوية سياسية عادلة يرضى عنها الشعب اللبناني، فمن الممكن أن
يستمر هذا الفراغ الرئاسي إلى أجل غير مسمى.
إن معركة مقعد الرئاسة اللبنانية تشتد ضراوة كل يوم، ما أثار مخاوف من
اندلاع حرب أهلية بسبب الأداء المجتمعي للدولة اللبنانية وحرمان سكانها من سبل
الحياة الكريمة. حيث تأتي اللقاءات بين القادة السياسيين واحدة تلو الأخرى دون أي
نتائج تذكر. وعلى حد قول "هيلين سالون" في صحيفة لوموند الفرنسية، هم
يتفاوضون في غرف معيشتهم المريحة على مستقبلهم، دون القلق على مصير البلاد. اللقاءات
ممتدة والعقبات مستمرة، ولا يزال لبنان بلا رئيس. يجتمع مجلس الوزراء أحيانا
لتسريع الأعمال الروتينية. ولا يجتمع البرلمان إلا على فترات منتظمة للاعتراف بعدم
وجود توافق في الآراء بشأن السلطة التنفيذية المستقبلية. ولا يوجد شعور بالمسؤولية،
على الرغم من تصاعد الضغوط من الخارج.
القادة اللبنانيون لا يلتفتون إلى الضغط الدولي ولا يعطونه أهمية. كل
العالم يريد من لبنان أن تنهض مرة أخرى بعد ثلاث سنوات غرقت فيها البلاد في أزمة
اقتصادية ومالية طاحنة. أغرقت بالفعل أكثر من 80٪ من السكان في براثن الفقر، وأدت
إلى تقسيم الدولة ومؤسساتها وخدماتها. ومن الواضح أن القادة يريدون كسب الوقت
لإيجاد الصيغة التي تضمن لكل منهم بقائه السياسي، فضلا عن إيجاد سبل للمحافظة على
استمرار نظام النهب الذي أقاموه منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990، والذي تواطأ
فيه مدراء المصارف ورجال الأعمال والقضاة الذين يضمنون إفلاتهم من العقاب. ويجب أن
نؤكد أن التحدي الرئيسي الذي لم يتغلب عليه لبنان بعد هو وجود أمراء الحرب في
المؤسسات الرسمية، حيث شارك العديد من القادة السياسيين الحاليين بنشاط غير مشروع
في الحرب الأهلية.
لقد حاول نواب كتلة التغيير خلال الشهر الماضي باعتصامهم في مبنى
البرلمان، الضغط على زملائهم لملء فراغ السلطة الذي خلفه نهاية ولاية "ميشال
عون" وغياب الحكومة. وبعد أربعة أشهر، لا يبدو أن النواب في عجلة من أمرهم
للعثور على رئيس يملأ فراغ السلطة. عقد المجلس التشريعي اللبناني 11 جلسة انتخابية
لاختيار رئيس جديد، فشلت جميعها في تحقيق نتائج.
يمر لبنان الآن بوقت مظلم بشكل استثنائي، حيث يتعامل مع فراغ في
السلطة في كل من المناصب الرئاسية والحكومية. وحكومة تصريف الأعمال لا تستطيع
مواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة، في وجود برلمان فقير وسياسيون يرغبون في
انتهاج أساليب الماضي التي تضمن بقاءهم على مقاعدهم. وبعد الجلسة الحادية عشرة الفاشلة للانتخابات
النيابية، لم يعلن رئيس مجلس النواب "نبيه بري" عن موعد جديد لانتخاب
رئيس الدولة، ولم يتقدم المجلس أبدا إلى ما بعد الجولة الأولى من التصويت. وحتى
الآن لا يوجد إجماع ولا يوجد معسكر لديه أغلبية واضحة لفرض مرشح.
يعيش لبنان واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية التي مرت عليه، حيث فقدت
الليرة أكثر من 95٪ من قيمتها منذ بداية الأزمة الاقتصادية في عام 2019. ولو قمنا
بقياس الحالة اللبنانية خلال الشهر الماضي فقط، سوف نواجه كارثة إنسانية كبيرة لم
تواجهها لبنان بهذا الشكل منذ نهاية الحرب الأهلية. لقد خضعت
الليرة اللبنانية لخفض كبير في قيمتها أمام الدولار الأمريكي، مما تسبب في إحداث
فوضى في الاقتصاد اللبناني، الأمر الذي أجبر الحكومة على تعديل الأسعار الرسمية
مرارا وتكرارا في غضون أيام، في محاولة لتوفير الضروريات، بما في ذلك الخبز
والأدوية والوقود. وقد أدت نوبة التضخم هذه إلى خفض القوة الشرائية وتفاقم الفقر. وصلت الليرة اللبنانية خلال الأيام الماضية إلى مستوى تاريخي جديد بعد
تخفيض بلغ 74 ألف ليرة مقابل الدولار. علاوة على ذلك، سجل لبنان ثاني أعلى معدل
تضخم عالميا في عام 2022.
تلك السياسات لم تعد توفر حتى الحد
الأدنى لمعيشة الشعب اللبناني، فلا يحصل الكثير منهم على الكهرباء والماء والصحة
والتعليم. وأصبحت رواتب موظفي الخدمة المدنية لا قيمة لها. أما الجيش اللبناني، فيتم
دفع رواتبه بفضل تبرعات بعض الدول. ويوميا يحصل غالبية اللبنانيين على المساعدات
من المنظمات المجتمعية، فضلا عن الأموال التي يرسلها الأقارب، حيث يقدر البنك
الدولي أنه في عام 2022، شكلت التحويلات من الخارج 38٪ من الناتج المحلي الإجمالي
للبنان.
ومع ذلك الوضع الاقتصادي والسياسي الحرج، فمن الممكن أن يؤدي الفراغ
الرئاسي وضعف الحكومة إلى رفع يد صندوق النقد الدولي عن لبنان، وأن يقرر عدم مساعدة
الاقتصاد اللبناني على التعافي. وقد يستمر الفراغ الرئاسي لأشهر أو سنوات إذا
فشلت الكتل السياسية في التوصل إلى حل وسط. ففي غياب رئيس، قللت الحكومة من قدرتها
على تلبية وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة لإطلاق دعم صندوق النقد الدولي، مما أدى إلى
تفاقم الظروف الاقتصادية الصعبة خلال أشهر الشتاء التي يدفع ثمنها المواطن
اللبناني كل ساعة. حيث تكافح العديد
من الأسر اللبنانية لتشغيل أنظمة التدفئة بعد أن رفعت وزارة الطاقة أسعار جميع
منتجات الوقود بشكل كبير خلال الشهرين الماضيين.
على أية حال،
وبهذه الصورة التي نراها في لبنان ويلمسها كل العالم من حوله، فقد تستمر الفصائل
السياسية الرئيسية في البلاد في الضغط من أجل الدفع بمرشحيها الرئاسيين المفضلين،
بدلا من البحث عن شخصية توافقية يمكنها كسر الجمود الحالي، طالما كانت مصالحهم
الاقتصادية والسياسية لها أولوية، فالدولة اللبنانية المنكوبة بالفقر والمأزق السياسي، أصبحت تحت رحمة قيادة غير مسؤولة
تنشد مصالحها ولو على حساب حياة أطفالها.
الكلمات المفتاحية:( الأكثر بحثا على جوجل )
