Responsive Ads Here

السبت، 12 نوفمبر 2022

أضواء على حياة عميد الأثريين الدكتور سليم حسن


د. وائل إبراهيم الدسوقي ..

تعد الآثار من الروافد المهمة للتراث الثقافي في العالم العربي، والتي تعكس بتناثر مفرداتها الحضارية في بقاع العالم المختلفة حضارة عريقة ضاربة في عمق التراث الإنساني لها من الأهمية بما يجعلها تتفوق على جميع الحضارات. أهمية تؤكد أصالة أمتنا ودورها الحضاري والثقافي. وقد شعر المصري منذ بواكير القرن التاسع عشر أن المحافظة على آثار بلاده من النهب المنظم هو المنقذ الوحيد لهويتها من تلك الأيدي التي قامت على نزع ما نفخر به من تراث مادي وشفاهي. وإزاء ما يواجه التراث الثقافي الأثري المصري والعربي على حد سواء من تحديات، قام نفر من المصريين بتعلم لغة الأجداد وطرق استكشاف وترميم وتسجيل آثارهم وفق منهج علمي سليم، ومنهم عميد الأثريين المصريين وصاحب موسوعة "مصر القديمة" الدكتور "سليم حسن"، أحد أهم علماء الجيل الثاني من رواد المدرسة الوطنية لعلم المصريات، تلك المدرسة التي رسخت بدورها فكرة ضرورة الحفاظ على التراث الوطني في البلدان العربية كلها.

ولد "سليم حسن" عام 1887 في قرية ميت ناجي التابعة لميت غمر بمحافظة الدقهلية المصرية، والتحق بمدرسة المعلمين العليا بعد حصوله على شهادة البكالوريا عام 1909، ثم اختير لإكمال دراسته بقسم الآثار الملحق بهذه المدرسة، نظرا لتميزه في علم التاريخ، وتخرج من هذا القسم بعد ثلاث سنوات عام 1913، وحاول بعد ذلك الالتحاق أمينا مساعدا بالمتحف المصري دون جدوى، إذ كانت الوظائف الفنية جميعها في هذا الوقت وقفا على الأجانب، فلما لم تتحقق له هذه الرغبة عُين مدرسا بالمدارس الأميرية، ولكنه واصل اهتمامه بالدراسات التاريخية والآثارية القديمة، فظهرت بوادر نشاطه العلمي مبكرا في هذه المرحلة، حيث وضع عددا من كتب التاريخ بالاشتراك مع "عمر الإسكندري"، استمر تدريسها بالمدارس المصرية ردحا طويلا من الزمن.

وفي عام 1921 عُين "سليم حسن" ومعه الأثريان محمود حمزة وسامي جبره كأمناء مرشحين بالمتحف المصري بعد ضغط متواصل من الحكومة المصرية التي كانت ترغب في تمصير الوظائف الخاصة بعلم المصريات. وفي ذلك الوقت تتلمذ على يد العالم الروسي "جولنشيف"، وكان تشجيع هذا العالم له حافزا مهما له من الناحيتين الأدبية والعلمية. وفي عام 1922 سافر "سليم" برفقة الأثري المصري "أحمد كمال" لحضور احتفالات عيد الذكرى المئوية لعالم الآثار الفرنسي "شامبليون"، فكشفت هذه الرحلة عن شخصية "سليم حسن" الوطنية، وعن تعلقه بآثار بلاده، ذلك التعلق الذي ظل ملازما له حتى النهاية، إذ إنه زار فرنسا وإنجلترا وألمانيا، وكتب عن زيارته عدة مقالات صحفية تحت عنوان (الآثار المصرية في المتاحف الأوروبية)، كان لها دوي كبير في الأوساط المصرية، لأنها كشفت عن طرق السرقة التي كان يتبعها الأجانب في نهبهم للآثار المصرية، والتي لم يكن المصريون يعرفون عنها شيئا، وكان لما ذكره بالأخص عن رأس الملكة نفرتيتي اهتمام خاص لدى الجميع.

وبعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922، والانتباه في مصر لفائدة علم الآثار، تمكن "أحمد كمال" من إقناع "زكي أبو السعود" وزير المعارف العمومية آنذاك، بإرسال بعض المصريين للخارج للتفقه في علم الآثار، وكان على رأسهم "سليم حسن".

وبناء على توصية "كمال" وافقت الحكومة المصرية على إيفاد "سليم" للدراسة بقسم الدراسات العليا بجامعة السوربون في عام 1925، وفي نفس العام حصل على دبلوم اللغات الشرقية واللغة المصرية من الكلية الكاثوليكية، وكذلك دبلوم الآثار من اللوفر. وفي عام 1927 حصل من السوربون على دبلوم اللغة المصرية القديمة ودبلوم الديانة المصرية القديمة. وفي العام نفسه عاد إلى القاهرة وعين أمينا مساعدا بالمتحف المصري، وانتدب بعدها لتدريس علم الآثار بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم عين أستاذا مساعدا بها.

وخلال الفترة من 1928 وحتى 1939 قام "سليم حسن" بأعمال حفائر ضخمة منظمة لحساب المتحف المصري وجامعة فؤاد الأول بمنطقة الجيزة وسقارة. وكان أول من قام بأعمال حفائر في منطقة أبو الهول ومعبده، حيث كشفت أعمال التنقيب عن الكثير من أسراره بالبحث والتنقيب العلمي المنظم في هذه المنطقة، بعد أن تعرض للعديد من الصراعات حيث كانت الحفائر من قبل حكرا على الأجانب فقط، الذين حاولوا إبعاد المصريين عن هذا الميدان بمختلف الطرق، ولم يصمد أمامهم سوى "أحمد كمال" و"أحمد نجيب" و"محمد شعبان"، ثم الجيل الثاني من الرواد، والذي كان من أهمهم "سليم حسن".

وفي مستهل عام 1928، اشترك مع عالم الآثار النمساوي "يونكر" في أعمال التنقيب والحفر في منطقة الأهرامات بهضبة الجيزة، ثم سافر إلى النمسا وحصل على درجة الدكتوراه في علم الآثار من جامعة فيينا. وفي عام 1929، بدأ بأعمال التنقيب الأثرية في هضبة الجيزة لحساب جامعة القاهرة، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تقوم فيها هيئة علمية منظمة بأعمال التنقيب بأيدٍ مصرية. وتوالت الكشوف منذ اليوم الأول، إذ تم الكشف عن مقبرة "رع ور" المهمة، وواصل "سليم" الحفر في هضبة الجيزة حول الأهرامات، ثم منطقة سقارة حتى عام 1939، حتى بلغت جملة ما كشف عنه من آثار حوالي مائتي مقبرة، عدا مئات القطع الأثرية الصغيرة، وعدد كبير من التماثيل وغيرها. وكان من أبرز اكتشافاته في تلك المنطقة مقبرة الملكة "خنت كاوس" وملحقاتها، وهي التي اعتبرها هرما رابعا، وكذلك سلسلة المقابر الخاصة بأولاد الملك "خع ف رع" وكبار رجاله، ومراكب الشمس الحجرية للملكين "خوفو" و"خع ف رع"، كما استطاع إماطة اللثام عن أسرار "أبو الهول"، وكان لاكتشافه هذا صدى هائل في جميع أنحاء العالم.

ولقد نشرت نتائج حفائره في عشرة أجزاء باللغة الإنجليزية باسم "حفريات في الجيزة" Excavations at Giza أعوام (1933، 1934). وأثناء عمله في هضبة الجيزة تم تعيينه وكيلا عاما لمصلحة الآثار المصرية، ويعد بذلك أول مصري يتقلد هذا المنصب، وهكذا أصبح مسئولا رئيسيا عن كل آثار البلاد.

واصل "سليم حسن" إنتاجه العلمي بعد خروجه من مصلحة الآثار، فأصدر موسوعة شاملة بالعربية عن تاريخ مصر، بلغت 16 مجلدا من الحجم الكبير ومات قبل إتمامها. كما وضع كتابا في الأدب المصري القديم أثبت فيه أن الأدب الإغريقي يرجع بأصوله إلى مصر. وكذلك كتابه عن "جغرافية مصر القديمة وأقسامها"، كما أصدر بالإنجليزية سبعة عشر مجلدا عن حفرياته في منطقتي الهرم وسقارة، كذلك كتابه المهم عن "أبو الهول: تاريخه في ضوء الكشوف الحديثة"، وقد بلغت مؤلفاته حوالي الخمسين مؤلفا.

وفي عام 1954، عين رئيسا للبعثة التي كلفت بتحديد مدى تأثير بناء السد العالي على آثار بلاد النوبة، فوضعت تقريرا كان أول دعوة عالمية لإنقاذ آثار بلاد النوبة وأبو سمبل، ثم استأنف "سليم" بعد ذلك أعمال الحفر والتنقيب في منطقتي قسطل وبلابة ببلاد النوبة. وفي عام 1959 تم تكليفه بجرد المتحف المصري، فأتمه بدقة في أقل من عام، ثم عكف بعد ذلك على إنجاز أعماله العلمية ومؤلفاته الأثرية حتى وافته المنية في 30 سبتمبر عام 1961، وكتب اسمه بعد وفاته في الأكاديمية الدولية للعلوم International Academy of Sciences فكان أول عربي يفوز بهذا الشرف نظرا لجهوده المضنية لتمصير علم الآثار، وتأسيس مدرسة وطنية لهذا العلم، ليأتي من بعده جيل تولى تدريس تاريخ وآثار مصر القديمة من خلال ما تركه من بصمات خالدة في هذا العلم من مؤلفات ومقالات وأبحاث وتقارير حفائر البعثات الأثرية، ساعدت كثيرا في تكوين صورة شبه شاملة لكل جوانب حضارة مصر القديمة.