د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
ارتبط اسم عبده الحامولي بمدرسة النهضة
الموسيقية، بعد أن قام بتطوير الموسيقى المصرية كمرحلة مكملة لمدرسة الشيخ المسلوب
أو ما عرف باسم مدرسة الصهبجية، فابتعد عن غناء الموشحات القديمة ونبذ ألحانها،
لذا يمكننا القول أن عمله هذا بداية مدرسة جديدة اعتمدت على التعبيرين الفردي
والقومي في الموسيقى، في سبيل مواجهة العثمانلية والتحرر من نبراتها التي امتزجت بالنبرات
الشامية التي لم تعد مرغوبة أيضا. وقد بدأت تلك المواجهة الفنية في عام 1842 بعد
أن خبى بريق الصهبجية، وبدأت النزعة الفردية في البزوغ، فخلعت المدرسة الجديدة
التي قادها الحامولي ثوب الموشحات والأدوار القديمة، وتحررت تماما من الأثر
التركي، وتم صقل الموسيقى بطابع مصري إقليمي، فتلطفت نبراتها، وأضيف إليها من
نغمات حديثة تتماشى مع التطور والتقدم الذي حمل لواءه أبناء محمد علي باشا، حتى
تميزت بطابع محلي يتفق وطابع المصريين، ولكن ببعض التحفظات حتى لا يكون التغيير
مفاجئا للذوق العام.
ولم يكن هذا التطور سهلا بالنسبة إلى
الحامولي، إذ أنه وجد كثيرا من العقبات التي حالت دون تمكينه من هدفه، فقد قاطعه
أهل الفن، ووصموه بالخروج على ألحانهم وأغانيهم وقيامه بتجريدها من نبراتها التي
اعتادوها. لكنه صمد أمام كل هؤلاء الذين وصفهم بالرجعية، إيمانا منه بفنه، الذي
كان على يقين بأنه يتجاوب مع الطبيعة المصرية، وسوف ينتصر، فهو فن نابع من الشعب
ومستمد من طابعه وبيئته. وبعد الكثير من المعارك انتصرت النهضة على الرجعية، واضطر
أهل الفن إلى مسايرة هذا التجديد والتجاوب معه ونهج نهجه، حتى تربعت مدرسة الحامولي
على عرش الغناء، وأصبحت الأغنية العربية مميزة عن غيرها متسمة بالطابع المصري.
ومن أشهر فناني مدرسة عبده الحامولي، ألمظ
ومحمد عثمان وأحمد حسنين ومحمد سالم والست نزهة وسلامة حجازي ويوسف المنيلاوي
ومحمد السبع وأحمد صابر وعبد الحي حلمي والسيدة السويسية والسيدة اللاوندية. وكلهم
حملوا لواء تطهير الموسيقى المصرية من أي نزعة عثمانلية موروثة، وعلى الرغم من
اتفاقهم جميعا في ذلك النهج، إلا أن محمد عثمان كان أكثر تحفظا من الحامولي تجاه الموسيقي العثمانلية، فسعى إلى تغيير
الموروث الموسيقي والغنائي التركي والتحرر منه على كافة المستويات، بدءا من
الآلات، مرورا بالإيقاعات والنغمات، انتهاء بالمقامات، وكذلك القوالب الغنائية
وطرق التأليف أيضا. كما يعزى إليه ابتكار أسلوب الحوار المتبادل بين المغني وجماعة المنشدين أو
المذهبجية، وهو ما يسمى بالهنك والرنك، أي الأخذ والرد، ذلك الأسلوب الذي ابتكره
بعد أن فقد صوته. وبذلك بزغ صوت المطرب الفرد، وكان عليه أن يتغلب على المجموع
المتمثل في المذهبجية، وقد بلغ ذلك الدور على يد عثمان قمة تطوره. أما التعبير
القومي في الموسيقى فقد بلغ غايته على يد سيد درويش، رائد المدرسة القومية في
الموسيقى الحديثة. ويعتبر عثمان من تلاميذ الشيخ محمود الشلشموني ومحمود الحصري،
وأخذ الألحان عن الحاج رفاعي وحسن الجاهل، وترك لنا ذخيرة فنية عظيمة تمثلت في
ولديه إبراهيم وعزيز عثمان.
وفي تلك المدرسة لم يكن للموسيقيين مكان أمام
المُغني، فهو وحده الفنان وصاحب الصيت الكبير والشهرة الواسعة، وليس الموسيقي أو
الملحن إلا أدوات في فرقة المغني يسيرها كيفما يشاء وتأتمر بأمره، فكان العازفون
والمرددون ما هم إلا أتباع للمغني، ولم تكن الموسيقى سوى إطار لتجميل الغناء
وتزيينه فقط. وهكذا كان المغني في مدرسة النهضة الموسيقية التي قضت على أي نزعة
عثمانلية في الموسيقى المصرية هو السلطان الأكبر وصاحب السيطرة الشاملة في مملكة
الفن.
