د. وائل
إبراهيم الدسوقي ..
تحت عنوان "محمد
فريد أبو حديد وآثاره القلمية" قدم الدكتور "أحمد زكريا الشِّلق"،
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة عين شمس، لمبادرة دار الكتب
والوثائق القومية بطبع الأعمال الكاملة للأديب والمؤرخ والمترجم المبدع "محمد
فريد أبو حديد" في جزئين، أولهما كان بنشر ترجمته لكتاب (فتح العرب لمصر)
الذي ألفه الدكتور "ألفرد ج. بتلر"، والثاني نشر ثلاثة كتب في مجلد ضخم
واحد، ضم بين دفتيه أعماله "تاريخ صلاح الدين وعصره" وكتاب "زعيم
مصر الأول السيد عمر مكرم" والثالث "أمتنا العربية".
ومن الواجب
علينا قبل الخوض في عرض هذه الأعمال والاحتفاء بها وتقديمها للقارئ، أن نقدم ملخصا
سريعا لسيرته الذاتية. ولد محمد فريد أبو حديد بالقاهرة في الأول من يوليو عام 1893، وتخرج بعد سنوات من اجتياز
مراحل تعليمية مختلفة في مدرسة المعلمين العليا عام 1914، ثم حصل على ليسانس
الحقوق عام 1924، وعين مدرسا وتدرج في وظائف وزارة المعارف حتى عين عميدا لمعهد
التربية بالقاهرة، ولم يمر وقت طويل حتى تولى في عام 1942 منصب سكرتير عام جامعة
فاروق الأول (حاليا جامعة الإسكندرية)، وفي عام 1943 أصبح وكيلا لدار الكتب ثم
لوزارة التربية والتعليم، ومستشارا فنيا لها، واختير عضوا بمجمع اللغة العربية، ومُنح
جائزة الدولة في القصة في عام 1952.
كتب مبدعنا مقالاته
في الأدب منذ تخرجه في مدرسة المعلمين عام 1914، وتزينت فهارس الصحف والمجلات
باسمه، نشر أعماله في مجلات السفور والسياسة الأسبوعية والهلال، وغيرها.. وكان أحد
مؤسسي مجلة الرسالة ثم مجلة الثقافة التي أصبح رئيسا لتحريرها. ومن أبرز آثاره
الثقافية في المجتمع المصري اشتراكه في تشكيل "لجنة التأليف والترجمة والنشر"
في عام 1914، كذلك تأسيس "الجمعية المصرية للدراسات الاجتماعية" عام
1937. كما أصبح عضوا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وتولى
منصب مقرر لجنة الفنون الشعبية بالمجلس حتى وفاته في 18 مايو عام 1967.
وبعيدا عن
كتاباته في التاريخ والسير، فإن له عدة مؤلفات أدبية مهمة، مثل قصص: ابنة المملوك،
وأزهار الشوك، وأنا الشعب، وعنترة بن شداد، وغيرها... فضلا عن بعض مسرحيات مهمة،
منها: مقتل عثمان، وميسون الغجرية، وعبد الشيطان، وترجمته لمسرحية ماكبث الشعرية
لويليام شكسبير. إلى جانب ترجماته لأشهر قصص الأطفال العالمية.. وهكذا، نحتار حينما
نقرأ لفريد في وصفه كمؤرخ أم أديب، وعن ذلك قال عنه المؤرخ الكبير الدكتور "أحمد
زكريا الشِّلق" في تقديمه لأعماله: "وكان من الواضح أن فريد أبو حديد قد
هيأ نفسه ليكون مؤرخا، إلا أن حرفة الأدب قد أدركته وغلبت على كتاباته".
فتح العرب لمصر
يعد كتاب
"فتح العرب لمصر" الذي ألفه عالم الآثار المصرية الإنجليزي "ألفرد
بتلر" في عام 1902 من أهم الترجمات التي قدمها "فريد أبو حديد"
للقارئ العربي، بعد تكليفه بترجمته عام 1931 من قبل "لجنة التأليف والترجمة
والنشر" ليصدر في عام 1933 في مجلد ضخم بلغ 560 صفحة. وقد أرخ به المؤلف لفتح
مصر على يد عمر بن العاص والفترة التي سبقته ومهدت له في فصوله الثلاثين، استمد
معلوماته فيها من أسانيد القبط والأرمن والسوريان واللاتين وغيرهم، كما رجع إلى
مؤلفات العرب المختلفة، فكانت نظرته حول الموضوع متعددة الجوانب، وأقرب إلى
التمحيص.
ولقد عبر "أبو
حديد" عن إعجابه بالكتاب حينما ذكر أن هذه الروح العادلة التي حدت بالمؤلف
إلى نصرة الحق في جانب أمة القبط، حدت به كذلك إلى نصرة الحق في جانب أمة العرب،
فلم يحاول أن يخفي فضائلها شيئا، أو يعكر من صفو سيرتها في مدة فتح مصر، بل كان
عادلا في وصف الأفراد والمجموع، نرى إعجابه بقائد القوم عمرو بن العاص، كما نرى
إعجابه بروح البساطة والطهارة التي كان عليها غزاة العرب إذ ذاك. ثم نراه يعرض
لمسألة خاض فيها المؤرخون المتأخرون ووجدوا فيها سبيلا للطعن في سيرة العرب، وهي
إحراق مكتبة الإسكندرية، فأبان هناك عن الحق راجعا إلى أسانيد التاريخ، حتى أظهر
أن العرب عندما غزوا الإسكندرية لم يجدوا هناك مكتبة كبرى، إذ كانت مكاتب تلك
المدينة قد ضاعت ودمرت من قبل غزوتهم بزمن طويل"..
وقد أعادت دار
الكتب والوثائق القومية نشر هذا الكتاب الممتع في المجلد الأول من الأعمال
الكاملة، ليكون سندا قويا للباحثين في مجال التاريخ الإسلامي والوسيط، وتعريف
المثقفين بأهم ترجماته الإبداعية..
تاريخ صلاح
الدين وعصره
من أهم
الدراسات التي تناولت سيرة هذا القائد المجاهد، نشرتها "لجنة التأليف والترجمة
والنشر" عام 1927 في سلسلة المعارف العامة التي كانت تصدرها، وقد قسمها
"أبو حديد" إلى كتابين، الأول عبارة عن مباحث تمهيدية لتاريخ صلاح الدين
الأيوبي، وناقش فيه دعوة الإسلام ونضاله مع الأمم، وعلاقة الإسلام بأوروبا منذ
القرن التاسع، كذلك عرض لمطالبة القسطنطينية بإنقاذ المقدسات المسيحية من أيدي
المسلمين، وردود أفعال الغرب تجاه تلك الدعوة، كذلك ناقش "أبو حديد"
أسباب تلبية أوروبا للنداء، واستعرض أحوال ممالكها الداخلية، وأسباب انتصار أوروبا
على العرب في تلك المرحلة، مما دعى القوى العربية فى المنطقة إلى إعادة ترتيب
البيت من الداخل واستجماع قوتها للدفاع عن الدين والأرض.
أما الكتاب
الثاني، فقد ترجم لشخصية صلاح الدين وتاريخ حياته، حتى توليه الوزارة وحكم مصر تحت
اسم "الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي"، ثم توليه سلطنة مصر والشام,
والعمل على تجهيز قواته لقتال الصليبيين حتى انتصاره في معركة حطين.
ولقد ذكر الدكتور
"الشِّلق" في معرض تقديمه لهذا الكتاب أن "أبو حديد" حرص على
أن يجمع بين دقة التاريخ وبساطة الأسلوب، وألا يغلو في التفصيل غلو يذهب بملامح
الصورة التي قصد أن يرسمها لصلاح الدين وعصره، كما حرص على أن يجمع بين وجهتي نظر
المؤرخين المسلمين والمؤرخين الأوروبيين على حد سواء "حتى لا يكون هناك ميل
في الحكم إلا بمقدار ما تستوجبه عقيدتي التاريخية الخاصة".. وكان مؤمنا بأن
واجب المؤرخ ليس فقط السرد والحكي، وإنما عليه واجب المناقشة والتحليل وإبداء ما
يعن له من الآراء..
السيد عمر مكرم
"ليس في
استطاعة أمة من الأمم أن تحيا في حاضرها منعزلة عن ماضيها، وليس في طبيعة
الإنسانية أن تنتزع شعبا من مجرى تاريخه، فليست الأمم إلا مجموعات من الأفراد، وكل
فرد في حياته ليس إلا مجموعة من الغرائز والطباع والميول الفطرية التي تخلفت له من
القرون والآباد"..
هكذا بدأ
"فريد" تقديمه لكتابه عن سيرة حياة نقيب الأشراف السيد "عمر
مكرم"، والذي سبق ونشرته "لجنة التأليف والترجمة والنشر" في عام 1937..
وأرخ الكتاب لسيرة ذلك الرجل الذي ظهر في حياة المصريين كقائد شعبي استطاع جمع
الناس حوله للقيام بحركة شعبية ضد ظلم الحاكمين المملوكيين إبراهيم بك ومراد بك
عام 1795م، بعد أن رفع لواء المطالبة بالشريعة والتحاكم إليها كمطلب أساسي، وكان
ذلك من مطالب المصريين آنذاك، كما طالب برفع الضرائب عن كاهل فقراء البلاد وإقامة
العدل في الرعية. فعندما اقترب الفرنسيون من القاهرة سنة 1798م قام السيد عمر مكرم
بتعبئة الجماهير للمشاركة في القتال إلى جانب جيش المماليك. واستمر كفاحه ضد الفرنسيين
حتى رحيلهم. ولم يتوقف عن الكفاح حتى تولي "محمد علي باشا" أمور مصر. وعلى
الرغم من المساعدات التي قدمتها الحركة الشعبية بقيادة عمر مكرم، لمحمد علي بدءا
بالمناداة به واليا، ثم التشفع له عند السلطان لإبقائه واليا على مصر. وبالرغم من
المنهج الذي اتبعه الباشا في بداية فترة حكمه مع الزعماء الشعبيين، بوعده بالحكم
بالعدل ورضائه بأن تكون لهم سلطة رقابية عليه، إلا أن ذلك لم يدم، حيث وجد أنه لن
تطلق يده في الحكم حتى يزيح الزعماء الشعبيين وعلى رأسهم "عمر مكرم"
الذي حكم عليه بالنفي لفترة طويلة حتى عاد إلى البلاد في عام 1819، ورغم عدم
اشتغاله بالسياسة بعد هذا التاريخ، إلا أنه عندما اعترض القاهريون على الضرائب
الباهظة التي فرضها عليهم الباشا عام 1822، شعر بأن مكرم له يد في صحوتهم، فقام
بنفيه مرة أخرى من القاهرة، لكنه مات في نفس العام، بعد حياة حافلة بالنضال الدؤوب
ضد استبداد الولاة والأجانب وظلمهم، وكان ينطلق في هذا وذاك من وعي إسلامي عميق
وفذ وإيجابي..
وقد كتب
الدكتور "أحمد أمين" في معرض تقديمه للطبعة الأولى من الكتاب أن مزيته
تظهر لكل قارئ، ففريد أبو حديد عني أكثر ما عني بالشعب وحركاته ونفسيته وحياته
الاجتماعية وآماله الوطنية.. واتخاذه لعمر مكرم محورا لكتابه أكبر دليل على هذا،
فهو ليس ملكا ولا أميرا، ولكنه أحد أفراد الشعب..
أمتنا العربية
ثالث المؤلفات التي
أعادت نشرها دار الكتب ضمن المجلد الثاني لأعمال "فريد أبو حديد"
الكاملة في السير والتراجم، بعد أن صدر في طبعته الأولى عام 1961 بدار المعارف، هو
كتاب تعريفي وافٍ بأصول الأمة العربية منذ نشأتها، وبيان المقومات التي تحملها
رسالة السماء التي أوصلتها أمتنا العربية إلى العالم. وإيضاح معالم حضارتها،
وأفضالها على الحضارة الغربية، وما قدمته للعالم من حولها من تراث علمي وفكري وفني..
ويذكر الدكتور
"الشِّلق" أن فريد: "كان يرى أننا نشعر بالحاجة الشديدة إلى أن
ننظر إلى الخلف لنرى آثار خطوات أمتنا، ولنعرف كيف بدأت وكيف نهضت، ولنرى متى
استقام لها السير ومتى تعرج بها، وأن نجمع أشتات الحوادث في نظرة شاملة، حتى لا
نضل بين شعابها ومفردات تفاصيلها.. أن نعيد كتابة تاريخنا بأيدينا، مهتدين
بتفكيرنا، متوخين ما ينبغي لنا من الصدق والحق والعدل"...
وقد قسم
"أبو حديد" فصول الكتاب بحيث تظهر أدوار الحياة التى مرت بها الأمة
العربية بشكل واضح، وفقا لنظرية التطور الحضاري، وقد بدأه بسؤال "من
نحن؟!" ثم تبعه بالحديث عن سنن تطور الأمم وأدوار حضاراتها، والحديث عن العصر
الجاهلي، وجيران العرب في هذا العصر كالدولة الفارسية والرومانية، ثم الحديث عن
الدور الثاني من حياة الأمة العربية متمثلا في ظهور الإسلام، وانطلاق الأمة
العربية بعد أن توحدت تحت راية الإسلام، مرورا بالفتوحات الإسلامية حتى انقسام
الدولة عصر الدولة العباسية وانعزالها عن الحكم والدفاع، ثم نقاش حالتها أثناء
الحروب الصليبية والحرب ضد التتار. ويناقش المؤلف مقومات بناء الحضارة العربية
وآثارها على العالم في مجالات الفلسفة والعلوم والآداب والفنون في فترة سلام
استمرت لخمسة قرون قبل أن تصاب بنكبة الإستعمار الذي مرت خلاله الأمة بمراحل تأرجحت
بين الخمول واليقظة ناقشها الكاتب بكل حرفية وإتقان.
* * *
لقد جاء في
الدراسة التقديمية للأعمال الكاملة لمحمد فريد أبو حديد، أنه لم يكن يكتب السير
والتاريخ لذاتهما، وإنما كانت الكتابة في هذا المجال وسيلة لغاية أكبر، تتمثل في
إذكاء الشعور الوطني والقومي، وكان مؤمنا بأن تقدم الإنسانية ورقيها في سلم
الحضارة رهن بظهور أفراد أو صفوة تقود إلى ذلك، وأنهم خلاصة كل جيل، ورواد
الإنسانية في سيرها إلى الأمام.. لقد كان فريد مؤمنا بالبطولة والعظمة في التاريخ
"والناس إذا تولى أمرهم عظيم تساموا إلى مستوى عظمته فأتوا بالعجب"،
لكنه كان مؤمنا أيضا بأن العظيم لا يؤدي دوره إلا من خلال الشعب الذي هو منه..
وتعد مبادرة
دار الكتب والوثائق القومية تحقيقا لمطلب طالما نادى به مثقفي مصر وكتابها، وخاصة
الكاتبة والناقدة المصرية "صافيناز كاظم" التي كتبت عن "فريد"
في إحدى مقالاتها المنشورة، بأنه لزم علينا إلقاء الضوء على كتاباته، وفاء
لشوامخنا الأدبية الكثيرة والعديدة التي تتناساها بقع الضوء الإعلامي في الصحف
السيارة, عمدا أو جهلا أو تقصيرا، هذا التقصير هو في الحقيقة إنقاص من قدر مصر
الثقافي والأدبي، إذ تبدو وكأنها لا تملك في صدارتها الثقافية والأدبية والفنية
والعملية سوى قمة أو قمتين أو خمس في حالتها القصوى, بينما تعج مكتباتنا وذخائرنا
بالكنوز من أعمال الرجال والنساء الذين قدموا عن طيب خاطر، إلى حد الاستشهاد، حبات
عقولهم وقلوبهم من أجل أن يدعموا المقولة التي نرددها دائما أن مصر أم الدنيا،
وأنها قلعة الإسلام وصرح العلم، أو رائدة التنوير.
