Responsive Ads Here

الاثنين، 3 أكتوبر 2022

ثورة النساء بين مجلس الأزبكية لنفيسة المرادية وصالون مي زيادة


د. وائل إبراهيم الدسوقي ..

كانت محصلة بحوث وأطروحات عديدة تناولتها المحافل العلمية والثقافية بالنقاش والجدل لسنوات عديدة أن الصالونات الأدبية في الماضي العربي لم تكن وقفا على الرجال فحسب، وقد أكد الباحث "عيسى فتوح" في محاضرة ألقاها في إحدى المؤسسات الثقافية السورية عن الصالونات الأدبية النسائية، أن المرأة العربية في مختلف بلاد العرب شاركت في هذه الصالونات التي سعى إليها الشعراء والأدباء ورجال الفكر، وكانت بذلك سباقة إلى تأسيس الصالونات الأدبية. فقد كان لعمرة في مكة صالون يتردد إليه الشعراء لإنشاد ما كانوا ينظمونه من الشعر، وفي العصر الأموي كثرت الصالونات الأدبية، كصالون سكينة بنت الحسين في الحجاز وصالون عائشة بنت طلحة وصالون جميلة وغيرهن، وكانت المرأة في هذه الصالونات تجالس الرجال وتناقشهم في القضايا الفكرية والأدبية دون أن تتخلى عن عفتها ورصانتها ووقارها. وأشاد الأصفهاني في كتابه الأغاني باستقامة سكينة بنت الحسين وحشمتها وبعد نظرها وصواب آرائها. وفي العصر العباسي اشتهر صالون فضل العبيدية حيث كان بيتها في بغداد ملتقى الأدباء والشعراء.

كما كانت المرأة في مصر والعراق والأندلس إبان القرن الخامس عشر الميلادي تدخل مجالس الأدب وتناظر الأدباء ويناظرونها، وكانت عائشة الباعونية تنظم الشعر وتلتقي الأدباء وتساجلهم في مجالسها الأدبية. وفي الأندلس شاركت المرأة الرجال في تأسيس الصالونات الأدبية، مثل صالون حفصة الركونية في غرناطة الذي جمع عددا كبيرا من الأدباء والأديبات، وصالون الشاعرة ولادة بنت المستكفي في قرطبة. وكذلك صالون عائشة القرطبية ونزهون الغرناطية التي تعد من ألمع أديبات الأندلس، وصالون سارة الحلبية التي قدمت من حلب، واشتهرت بشعرها الجيد، وجالست الأدباء وكبار القوم..

وذكر "فتوح" في محاضرته أنه على الرغم من ظهور المرأة في الأوساط الاجتماعية وإدارتها للصالونات الأدبية خلال حقب تاريخية مهمة، إلا أن تقوقع المرأة خلال بدايات العصر الحديث جعل هذا الدور ينحسر إلى درجة كبيرة، خاصة في العصر العثماني.. وأنه مع بدايات النهضة العربية خرجت المرأة من عزلتها الخانقة، واختلطت بالرجال، فكان هناك صالون الشاعرة مريانا مراش في حلب عام 1919، وكذلك مي زيادة ونازلي فاضل ولبيبة هاشم وهدى شعراوي وأماني فريد في القاهرة والكسندر الخوري في الاسكندرية، وماري عجمي وزهراء العابد وثريا الحافظ وكوليت خوري وحنان نجمة وابتسام صمادي وجورجيت عطية في دمشق، وحبوبة حداد في بيروت، وانصاف الأعور معضاد في عالي، وصبيحة الشيخ داوود في بغداد وغيرها في نفس الحقبة الزمنية تقريبا..

ولكن ورغم أن ما ذكره "عيسى فتوح" يُعد حقيقة تاريخية ثابتة، إلا أن الرجوع بالزمن عشرات السنين، وتحديدا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، سيكشف لنا أن ثمة صالونا أدبيا مرموقا كان يعقد بصفة دورية في بيت السيدة "نفيسة خاتون" (أو نفيسة المرادية نسبة إلى زوجها مراد بك) في درب عبد الحق بالأزبكية، وكان بمثابة صالون اجتماعي وثقافي من الطراز العصري، مع الفارق بين البيئة والظروف الاجتماعية ومجالات الفكر والثقافة في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر وما تلاه مما طرح للنقاش في الصالونات الأدبية التي أسسها أرباب الفكر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

وعُرف هذا الصالون قبل أن يعرف صالون الأميرة نازلي فاضل الذي كان يقام خلف قصر عابدين، وصالون الأديبة مي زيادة، اللذان كان لهما أثر عظيم في حياة المصريين الأدبية والفكرية، حيث كان يجتمع صفوة من أئمة الثقافة والأدب وأعلام الصحافة والفلسفة في مصر، ظهر الصالون الأول في قصر ملكة غير متوجة، زوجة أقوى رجلين عرفتهما مصر في السنوات الأخيرة للقرن الثامن عشر، علي بك الكبير ومن بعده مراد بك، في ميدان الأزبكية..

وكانت نفيسة المرادية على جانب كبير من التثقيف والتهذيب، وقد أتقنت العربية قراءة وكتابة، واطلعت على أمهات الكتب الأدبية والعلمية ودرستها دراسة واعية، فارتقت مداركها واكتسبت احترام العلماء والبكوات المماليك الذين كان بيدهم الحل والعقد. وكان العلماء والشيوخ ورجال السياسة والحكم يجتمعون في قصرها لدراسة شئون البلاد والظروف السياسية القائمة، لاسيما أثناء الغزوة الفرنسية، حيث ساد البلاد نشاط وطني ثوري يستهدف الغزاة ومقاومتهم..

ولم يصلنا من مؤرخي العصر، عن هذا الصالون إلا معلومات قليلة، لما اكتنف تلك الفترة من اضطرابات جمة في جميع مرافق البلاد، وثورة الشعب ضد الغزو الفرنسي، وضد المظالم التي حاقت بالأهالي من جراء فرض الضرائب والغرامات، واستخدام أبشع الوسائل في تحصيلها.

وذكر الفرنسيون أن المرادية أقامت يوما مأدبة فخمة في قصرها، ودعت إليها قادة الغزوة الفرنسية، لحثهم على تخفيف المظالم عن الأهالي. وبعد أن ناقشوا كافة أمور البلاد أرسلت معهم خاتم ثمين مرصع بالجواهر هدية منها إلى "أوجين بوهارنيه" إبن زوجة "جوزفين" زوجة بونابرت. فظهرت السيدة نفيسة بذلك وكأنها سيدة دولة ومجتمع من الطراز الممتاز، وكان لابد لها من الإلهام بعادات وأساليب اجتماعية معينة، حتى تستطيع تقديم مثل هذه المأدبة لعدد كبير من الفرنسيين الذين لهم ثقافة خاصة وعادات محددة في مثل هذه المناسبات.

كذلك كان أمراء المماليك يجتمعون في قصرها، وكانت لها منزلة كبيرة في نفوسهم، ولم يكن السائد في هذه الاجتماعات إلا الطابع السياسي في المناقشات، وكانت تنمي في نفوسهم الاتجاهات الوطنية والإنسانية، وتحثهم على رعاية حقوق الناس ومعاملتهم بمبادئ العدل والمساواة والرحمة، وعدم إيذاءهم في أملاكهم وأرواحهم، حاضة إياهم على النهج السوي في الحكم.

ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث، اجتمع الحكام وقادة الرأي والعلماء في قصر امرأة، ليتحدثوا في أمور جادة على مستوى متميز. ولقد أهداها كبير أطباء الغزوة الفرنسية الدكتور "دي جنت" في أحد الاجتماعات خمسين نسخة من كتاب ألفه باللغة العربية عن مرض الجدري، مما يدل على احترام وتقدير وتكريم لشخصية هذه المرأة.

ولقد ضن علينا المؤرخون الشرقيون من أمثال الجبرتي، بما يعطينا من معلومات دقيقة عن هذا الصالون الاجتماعي الأول، وعن الاجتماعات العديدة التي عقدت فيها، مما يدعو إلى الغرابة والإستفهام، ربما لأن العرف والتقاليد آنذاك كانت تمنع الاسترسال في الحديث عن المرأة أيا كان مركزها ونفوذها وشخصيتها.. تلك المرأة التي لم تكن حديث الأزبكية فقط، بل كانت حديث الرحالة الذين زاروا مصر وسجلوا مشاهداتهم في كتبهم، حتى أنهم أطلقوا عليها وعن جدارة اسم "أم المماليك".. وقد خلد "خالد توفيق" سيرتها في كتاب مهم أطلق عليه اسم "أم المماليك أعظم امراة مصرية في القرن الثامن عشر"، وبين فيه دورها في خدمة المجتمع المصري، اجتماعيا على الصعيد الثقافي والخيري، وسياسيا في محاولة منها لتخفيف ضغط الفرنسيين على أهالي مصر أثناء الغزوة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، فجمعت "المرادية" في صالونها بين بث الوعي والوجاهة الاجتماعية، وأصبحت قطرة ماء نزلت في بحر راكد، ساهمت في تحريكه، ليبدأ المجتمع معها ومع غيرها من رواد التنوير في رحلة قطار النهضة.

ولقد بدأت رحلة نهضة مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر على يد نخبة من المثقفين المصريين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التنوير، منهم رفاعة رافع الطهطاوي والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وقاسم أمين، وغيرهم.. إلا أن اللافت للنظر هو ظهور النساء على سطح الحالة الثقافية على ضوء دعوات تحرير المرأة لقاسم أمين وغيره..

ولا ريب أن اللبنانية ماري زيادة (مي فيما بعد) كانت أكثرهن شهرة وشغلا للرأي العام وإثارة لطبقة المثقفين ورجال السياسة والأدب، وقد جمعت بين صفاء الروح وجمال الجسد في تناغم يخلب الألباب، وألمت بالثقافة العربية والغربية باحتراف. ورأى البعض أن جمالها الروحي والجسدي كان مغريا للأدباء بحبها والتعلق بها، فعشقها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران وأحمد لطفي السيد، وغيرهم..

ولا شك أن صالون مي الأدبي الذي كان يجتمع فيه كبار مثقفي العصر، زادها شهرة وتقديرا، فقد نفذت في الشرق فكرة غربية اشتهرت بها كاتبات الغرب، فضلا عن كتابه وإنشاؤه وترسيخه في المجتمع العربي الخارج لتوه من عصرالظلمات، فكانت أفكار مي خلاقة تؤكد أن المرأة ليست مجرد وجه جميل ورحم ولود. وقد وصف الكتاب "إبراهيم مشارة" صالون مي في إحدى أعماله عنها قائلا: "أن مجلس الآنسة مي يختلف عن سابقيه، فقد كانت مي مجتمعة بالرجال مسفرة كالبدر، ومن حولها أقطاب السياسة وأعلام الأدب وأعيان البلد تناقشهم وتدلي بآرائها التي بهرت الجميع، وكان يوم الثلاثاء من كل أسبوع عيد الأدباء والمفكرين والعشاق يتأنقون ويتعطرون ويخفون إلى المجلس بهمة ووجد وهيام عجيب وكلهم يريد أن يكون فارس الندوة ورائد المجلس لعله يحظى بقلب مي وحبها، فيجمع بين الثقافة في أرقى تجلياتها والجمال في أكمل صوره".

ولو قارننا بين صالوني نفيسة خاتون (المرادية) ومي زيادة، سنجد أن الأول يتميز عن الثاني بقوة التأثير السياسي على الشعب المصري على وجه الخصوص، فقد كانت أم المماليك تحاول استخدام صالونها في توصيل رغبات الشعب إلى الإدارة الفرنسية عن طريق ضباط الغزوة، بالإضافة إلى أن طبيعة النقاشات التي كان يتناولها صالونها اجتماعية وسياسية، تحاول من خلالها خدمة الشعب وتخفيف آلامه من سطوة المحتل والأمراء، وفي المقابل نجد أن صالون مي كان يهتم بإبراز أهم جوانب التغير في الحالة الثقافية بمجتمعنا العربي بشكل عام، مما ساهم في نهضة المجتمع ثقافيا بشكل واضح وفعال، وكانت القضايا الفكرية التي يتناولها الصالون متخصصة إلى حد كبير في الشعر والقصة والنقد الأدبي..

وقد أثمرت هذه الصالونات ثمارا ثقافية وفكرية تجلت في ظهور نساء وقفن ندا للرجل في السياسة والفكر والفن والأدب، من أبرزهن ملك حفني ناصف، هدى شعراوي، عائشة التيمورية، عائشة عبد الرحمن، نعمات فؤاد، فدوى طوقان، نازك الملائكة، وسهير القلماوي، وغيرهن من أعظم نساء العرب في العصر الحديث..