Responsive Ads Here

الاثنين، 3 أكتوبر 2022

وردة جديدة في عروة فارس الثقافة المصرية ثروت عكاشة


د. وائل إبراهيم الدسوقي ..

خلال كلمته بمؤتمر الكتاب العربي الذي انعقد في القاهرة يومي 4، 5 فبراير عام 1967، ذكر الدكتور "ثروت عكاشة" نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة المصري أن فلسفته الثقافية تتلخص في عدم الوقوف أمام حرية التعبير، لكنه يقف ضد كل ما هو مناقض للمبادئ الإنسانية والأهداف التحررية والتقدمية والقومية، ويشجع مختلف المدارس الأدبية والفنية والفكرية في إطار هذه المبادئ والأهداف، وأنه لا يخطط للتعبير، لكنه يخطط لإمكانية التعبير. وأكد على اهتمامه بالتراث العربي القديم، لا بالتحقيق والنشر فحسب، بل بالدراسة والتقييم لإبراز قيمته الباقية الخالدة، ورسم الملامح المتكاملة للفكر العربي الأصيل عبر التاريخ. وأنه سوف يحرص على الاهتمام بالجانب العلمي منه، والذي كان له أبلغ الأثر في نشأة الحضارة الأوروبية. كما أنه سيحرص على الاهتمام بالتراث الشعبي تدوينا ودراسة وتقييما، لا في الجمهورية العربية المتحدة وحدها، بل في سائر أنحاء العالم العربي كله.

ومن المعروف أن "ثروت عكاشة" خريج الكلية الحربية عام 1939، وكلية أركان الحرب عام 1948، والحاصل على دبلوم الصحافة من كلية الآداب جامعة فؤاد الأول عام 1951، كما نال درجة الدكتوراه عن رسالته في تحقيق كتاب "المعارف لابن قتيبة" من جامعة السوربون بباريس تحت إشراف البروفيسور "ر. بلاشير" عام 1960. وكان قد تم تعيينه قبل ذلك في أكتوبر عام 1958 كأول وزير للثقافة والإرشاد القومي في حكومة الوحدة الثانية، ومرة ثانية عام 1966، حين أصبح مسمى منصبه نائب رئيس الوزارء ووزيرا للثقافة، حيث بدأ الفصل بين وزارة الثقافة والإرشاد القومي. وفي يونيو 1967 أعفي عن منصب النائب، وأصبح وزيرا للثقافة فقط، حتى خلفه الأستاذ "بدر الدين أبو غازي" في نوفمبر 1970 حتى مايو 1971.

وكان لعكاشة سياسة ثقافية حددتها له مبادئ ثورة يوليو عام 1952، التي كان يحسن استخدام أدواتها وتسخيرها في إدارة الثقافة المصرية بما يخدم أهداف الثورة والنظام الحاكم آنذاك، الذي اعتمد على وزارة الإرشاد القومي التي كانت تضم بداخلها وزارة الثقافة بشكلها الحالي، ثم انفصلت عنها بعد ذلك، وكان الكُتاب والأدباء والمفكرون في هذه الفترة يعتبرون الوزارة بمثابة المنفذ الوحيد لمبادئ الثورة في المجال الثقافي.

ولقد صدر للكاتب والباحث "محمد سيد ريان" بالقاهرة عن دار العين، كتاب مهم بعنوان "السياسة الثقافية في عهد ثروت عكاشة"، ناقش فيه المؤلف فكرة الإنجاز في السياسة الثقافية المصرية، دون الخوض كثيرا في المشروعات والبرامج المنفذة، لاعتقاده بأن التطبيق بدون فكر يوضحه وسياسة توجهه لا فائدة منه. ومن رأيه أنه على الرغم من المحاولات العديدة لوضع سياسات ثقافية واضحة المعالم، إلا أنها لم يتم تجميعها أو استكمالها لتحقق إطار عام لثقافة تليق بمصر والمصريين حتى وقتنا الراهن. ورأى أن العديد ممن تولوا أمر الوزارة حاولوا الإصلاح والتغيير من أجل تحسين الخدمة الثقافية للمصريين، لكن قليلين من وضعوا أيديهم علي صلب المشكلة. وهكذا يحاول هذا الكتاب المهم إلقاء الضوء علي واحدة من أهم تلك التجارب المتفرقة من أجل صياغة مشروع وطني وقومي للسياسة الثقافية، يساهم في تحقيق مستقبل أفضل.

واحتوى الكتاب على عدة موضوعات مهمة، من بينها الإجابة على تساؤل لماذا نتحدث الآن عن سياسة ثقافية، والحديث عن ثورة ثقافية موازية لثورة يوليو 1952 مبرزا أهم أهدافها ووسائلها، كذلك تحليل تجربة "ثروت عكاشة" في أعين المؤيدين والمعارضين لها، ومحاولة تقديم بعض الحلول في سبيل الوصول إلى ثقافة مصرية لائقة ترتبط بتاريخها الطويل في خدمة الإنسانية.

على أية حال، ركزت سياسة عكاشة الثقافية على الاهتمام بالثقافة العلمية، في الوقت الذي كانت مصر تحاول بناء أكبر بؤرة صناعية في الشرق الأوسط، بتجديد المصانع القديمة وبناء جديدة، والاستعانة بكافة الخبرات العلمية التي تضمن تحقيق تلك النهضة المأمولة. وكان من وجهة نظر عكاشة أن الجانب الأدبي قد غلب على ثقافتنا العامة، وغاب الجانب العلمي الذي لم يعتن به أحد العناية الكافية التي تخدم المجتمع ومستقبله. خاصة وأن العادات غير العلمية سادت على الأفكار مثل التواكل والسلبية والفردية والتلقائية والخرافة، ولا شك أن مصر تحتاج إلى توجيه الفكر العلمي وتعميقه وإشاعته بين المواطنين جميعا، لبث روح العمل ومواجهة المشاكل مواجهة موضوعية سليمة.

وإلى جانب ما ذكره ريان حول سياسة عكاشة الثقافية، وبعيدا عن مشاريعه الثقافية التي ذكرها المؤلف إجمالا في أثناء كتابه، فقد حرص عكاشة على توسيع القاعدة القارئة وتيسير سبل الاستمتاع بثمرات العلم والأدب والفن للطبقات الشعبية التي طال حرمانها من هذه الثمرات. ولهذا كان إيمانه بضرورة الاتجاه بالكتاب إلى العمال والفلاحين والعمل على خلق العادات القرائية بطبعات زهيدة الثمن للكتب القيمة، وتبسيط أمهات الكتب وتقريبها لهم دون إخلال بجودتها. فضلا عن تيسير انتشار الكتاب في المدن النائية والقرى والمصانع، وذلك بهدف إذابة الفوارق الثقافية من صفوف الشعب العامل والارتفاع بالمستوى الحضاري لجماهير الشعب.

وعلى صعيد التذوق الفني، عمل "عكاشة" طيلة توليه مسئولية رسم السياسة الثقافية المصرية على سد الفجوة بين المثقفين وغيرهم من بقية شرائح المجتمع، فقد أكدت التجارب أنها ليست بالاتساع الذي يتصوره البعض، فالمشكلة الحقيقية التي اعترضت إزالة الحواجز الثقافية فى المجتمع ليست في عجز الشعب عن تذوق الفنون والثقافات الرفيعة، بقدر ما هي عجز الفن الرفيع في التعبير عن القيم الشعبية وتمثيلها. فأتاح "عكاشة" بتفاعل مستمر بين طبقات الشعب المختلفة، وبين صور الفنون والثقافات الرفيعة، مما أحدث التغيير المطلوب في وقت قصير.

كما عمل على تطوير الثقافة الإقليمية التي لا تقل أهمية عن نقل ثقافة العاصمة إلى الأقاليم، فلكل مكان صفاته وتراثه الي يتميز به عن مكان آخر. فبدأ منذ عام 1959 في إقامة قصور الثقافة، وبث قوافلها في مناحي الريف المصري، والتي أصبحت بعد شيوعها مظهرا من المظاهرة الحضارية الواضحة المعالم. وهكذا أكدت سياسة "عكاشة" الثقافية أنه لا سبيل إلى ارتقاء وجدان الشعب إلا من خلال اجتذابه لمشاهدة الأعمال الفنية الرفيعة المستوى، وإلا سوف تظل الجماهير على نفس مستواها، طالما تم حجب الفن الرايى عنها.

ولريان عدة مؤلفات مهمة إلى جانب الكتاب الذي نحتفي بصدوره، مثل "الحملات الانتخابية الإلكترونية - الإعلام الجديد – كيف تفجرت الثورة في 25 يناير – الفيس بوك والثورة المصرية – الصورة التي تحرك الملايين – القراءة والثقافة الرقمية" ومؤخرا كتابه المهم الذي يعاصر الاحتفال باليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب "حكاية أول معرض دولي للكتاب" والصادر بالقاهرة عن سلسلة كتاب الجمهورية. وهو بذلك يسعى بمشروعه الثقافي إلى الخروج من هذا النفق المظلم الذي تعاني منه الثقافة المصرية في الآونة الأخيرة، ويمهد طريق للخلاص بالثقافة والمعرفة، والوصول بها إلى بر الأمان.