Responsive Ads Here

السبت، 16 فبراير 2019

هل يحتاج التاريخ المصري إلى مراجعة ؟


بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي  ..
سألني أحد الأصدقاء، هل التاريخ المصري الذي تعلمناه مزورا؟ هل يحتاج إلى مراجعة؟ وبالرغم من أن الإجابة الأسهل والمريحة هي "نعم"، لكني احترت كثيرا، فهل أجيب بما يتآلف مع المناخ العام الذي اقتنع بأن تاريخنا تم تزويره نتيجة تقلبات سياسية أو ما شابه؟ أم أجيبه بتقديم حقيقة ترتبط ارتباطا كليا بقضايا الثقافة وأزماتها المتكررة؟
على أية حال، اخترت مبدأيا أن أجيبه بنعم، هناك جوانب من التاريخ المصري بشكل خاص كان للمنتصر – أيا كان - تأثيره في طريقة كتابتها، لتمرير بعض الأفكار أو لتبرير أفعال أو لإضفاء بطولة. وبطبيعة الحال وجد ذلك المنتصر في الباحثين ضعاف النفوس من يكتب له ويمرر.
ومع أن تلك الإجابة هي التي سوف تقنع صديقنا وتريح ضميره، لكن الحقيقة أن التاريخ المصري تتم مراجعته مراجعة دقيقة بصفة مستمرة، فهناك عشرات الرسائل العلمية التي تتناوله بالبحث والفحص وغربلته من أي شبهات التزييف، تناقشها أقسام التاريخ والآثار في المعاهد المتخصصة والكليات في الجامعات المصرية، تعتمد في مجملها على أسس البحث العلمي وقواعده المعروفة، مما يُعد بمثابة مراجعة مستمرة للتاريخ يقوم عليها مئات الطلاب سنويا، من الذين حملوا على عاتقهم مشكورين مسئولية البحث في خبايا تاريخ وطنهم بناء على ما توفر لديهم من وثائق رسمية ومصادر ومراجع مختلفة، ليقدموا بعد إخضاع المادة العلمية للقواعد التي تعلموها خدمة جليلة للبلاد ولمستقبل الإنسانية. ولكن على الرغم من ذلك، إلا أن تقصير الجامعات في رعاية تلك الدراسات العلمية الجادة بعد مناقشتها، هو ما رسخ في الأذهان فكرة أن التاريخ مزور ويحتاج إلى مراجعة.
وبالإضافة إلى ما يتوفر يوميا في مكتبات الجامعات من رسائل تمت مناقشتها وإجازتها، هناك أيضا مراجعات مستمرة لتاريخ مصر من خلال البحوث المقدمة للدوريات المصرية الرسمية والخاصة، كذلك ما يتم مناقشته من موضوعات تاريخية في ندوات ومؤتمرات الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وسيمنارات الكليات الأسبوعية، والتي يمكن أن يحضرها أي أحد يرغب في معرفة تاريخ بلاده وتاريخ العالم من حوله من مصادر موثوقة، حتى ولو لم يكن أحد المنتمين إلى الجامعة، فهي مفتوحة للجميع.
إن التاريخ المصري لا يحتاج إلى مراجعة بقدر احتياجه إلى نشر آلاف الرسائل والدراسات العلمية في طبعات شعبية زهيدة الثمن تطبع تحت إشراف الجامعة، صاحبة تلك المشاريع في الأساس، ليقرأ الناس عن تاريخ بلادهم دون أي أفكار مسبقة عن تزييفه واحتياجه للمراجعة. فمن المعروف أن منظومة النشر في مصر قاسية بعض الشيء، ولا يستطيع تحملها أي أحد أنفق معظم ما يملك في سبيل إخراج أطروحته العلمية إلى النور، في ظل تلك الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بلادنا، فضلا عن اهتمام معظم الناشرين بالأعمال الأدبية ورفضهم لكثير من الأعمال العلمية المقدمة إليهم بحجج تسويقية مختلفة. في المقابل كانت تجارب بعض الناشرين ناجحة، حينما طبعوا بعض الأعمال العلمية وسوقوا لها بشكل محترف، بل أن بعضهم أصدر بعض سلاسل تعيد للتاريخ المصري اعتباره، بقصد تمكين الجمهور من قراءة أعمال علمية جادة، لكنها وللأسف باهظة الثمن.
وعلى الجانب الرسمي يصدر المجلس الأعلى للثقافة العديد من الكتابات في فروع التاريخ المختلفة، بعضها من تلك الرسائل والأطروحات العلمية التي تحدثنا عنها، وأخرى مؤلفات تاريخية خاصة، كذلك الإصدارات العظيمة للمركز القومي للترجمة، والهيئة العامة لقصور الثقافة، ومكتبة الإسكندرية، فضلا عن سلاسل الهيئة المصرية العامة لدار الكتب والوثائق القومية. ولكن أين دور الجامعات المصرية من كل ذلك؟
تمنح الجامعات المصرية طلابها في مرحلتي الماجستير والدكتوراه درجة علمية يشوبها بعض الغموض (وقررت لجنة المناقشة بإجماع الآراء منح الطالب درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز/ مرتبة الشرف الأولى، مع التوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة وتداولها بين الجامعات المصرية والأجنبية).. ومع عظمة ذلك التقدير، إلا أنه لا يوضع أبدا محل التنفيذ العملي، فلا تطبع الرسالة ولا يتم تداولها، وتصبح أسيرة مكتبة الكلية وتضيع بمرور الزمن. وإذا سأل الباحث جامعته عن إجراءات الطباعة والتداول تكون الإجابة المعتادة: "إنه تقدير شرفي ولا ينفذ". ولكننا إذا عدنا إلى خمسينيات وستينيات القرن العشرين سوف نجد أن ذلك التقدير كان محل تنفيذ والتزام واحترام ومسئولية، لأن منطوقه بشكل قانوني يلزم الجامعة على تنفيذه والحرص عليه، خدمة للطالب والوطن، فكانت الرسائل التي منحت هذا التقدير تطبع على نفقة الجامعة، ويكتب في الغلاف الداخلي لها أنها (رسالة الباحث "فلان" وحصلت على تقدير "كذا" وتقرر طبعها على نفقة جامعة "كذا" وتبادلها مع جامعات العالم). ولكن فجأة أصبحت الدرجة "شرفية"، تشوبها المجاملة المشبوهة، بعض الجامعات تضعها في شهادة التخرج وبعضها يحرم كتابتها، حتى لا تكون التزاما.
ولكن لماذا لا تترجم الجامعات المصرية ذلك التقدير بشكل عملي، فتطبع تلك الأطروحات العلمية، التي يمكنها أن تغير من المفهوم الجمعي بأن التاريخ يحتاج إلى مراجعته وتطهيره من الزيف.. وإذا كانت ميزانية الجامعة لا تتحمل مثل تلك الخطوة، فما يدفعه الطالب من مصروفات جامعية تتضاعف سنويا خلال مراحل الدراسات العليا المختلفة يكفي لاقتطاع جزء منه لطباعة عمله، ولو بعدد نسخ قليل يكفي الإيداع في كل المكتبات ليكون متاحا لأي مهتم. أضعف الإيمان أن تقوم الجامعة بطباعة مجلد سنوي يحتوي على ملخصات الرسائل العلمية ليكون دليلا لأي مهتم يبحث عن الحقيقة في موضوع ما. فإذا لم تتم تلك الخطوة، فما الجدوى من مناقشة مئات الرسائل العلمية سنويا.
إن الباحث في التاريخ ينفق الكثير من ماله وأعصابه في محاولة إخراج عمل علمي يقوم على قواعد المنهج قدر استطاعته بما توفر من مادة علمية وثائقية، فإذا لم يكن هناك مكان في الكليات لتوظيف هؤلاء "المشكورين المقهورين"، فعلى الأقل اطبعوا أعمالهم واجعلوها متاحة، تكريما لهم ولمشرفيهم الأجلاء على جهدهم المبذول، وخدمة للوطن ومستقبله.

* نشر في صحيفة القاهرة، عدد 889، 1 أغسطس 2017