Responsive Ads Here

السبت، 16 فبراير 2019

من تاريخ خزائن التراث الإنساني.. المكتبة الوطنية الجزائرية


بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
المكتبة الوطنية، هي المكتبة الأم ذات المهام الخاصة التي تتمثل في حصر وجمع وتنظيم إنتاج الدولة الفكري عبر تاريخها وحفظه، وجمع وثائقها الرسمية وأوراق شخصية، وإنتاج فكري جديد من بنات أفكار أبنائها في الداخل والخارج، كما تقوم بإدخال ما أنتجته العقول الأجنبية من أعمال تتعلق بحضارتها للارتقاء بعقل المواطن، فضلا عن القيام بالدور المركزي في إصدار الفهارس الموحدة، والتنسيق للتعاون بين مؤسسات المعلومات المحلية والدولية. ولأهمية المخطوطات الجزائرية ومكانتها وما تتمتع به من قيمة ثقافية وتاريخية، بالنظر لما تتميز به من تنوع لمضامينها التي تمس شتى المجالات والفنون، قرر وزير الإحتلال الفرنسي "أدريان بير بروجييه" في 13 أكتوبر عام 1835 تأسيس المكتبة الوطنية الجزائرية، وكان شغوفا بعلم الآثار والاستشراق والتأريخ والعلوم الجغرافية واللغوية ورحلات الاستكشاف.
ولقد تضررت المخطوطات الجزائرية كثيرا في فترة الاحتلال الفرنسي (1830 – 1962)، وحينما سقطت مدينة قسنطينة على يد المارشال "كلوزيل" في نوفمبر عام 1837، تعامل الجنود الفرنسيين مع المخطوطات والكتب النادرة بكل همجية، فعبثوا بها وخربوها وأحرقوا معظمها. فأصبحت مهمة "بير بروجييه" صعبة للغاية، حيث قام بتأليف لجان لجمع الكتب والوثائق من شتاتها، ووضعها في أماكن مؤقتة، حيث استطاع أن يجمع من مكتبات قسنطينة وحدها حوالي 800 مخطوط أنقذها من التدمير والنهب، والتي بكل أسف ضاع معظمها لصعوبة الطريق أثناء نقلها إلى العاصمة. بالإضافة إلى جمعه عدد لا بأس به من مخطوطات تلمسان ومعسكر والمدية، أضيفت إلى مخطوطات قسنطينة. وبهذا تكونت المجموعة الأولى للمكتبة الوطنية التي تعتبر أهم مجموعة موجودة بالجزائر ابتداء من تاريخ تأسيس المكتبة عام 1835.
استقرت الحال بالمكتبة إلى قصر الداي "مصطفى باشا" عام 1863، واستمرت تمارس أعمالها حتى عام 1958، حيث نقلت إلى مبنى جديد في شارع فرانس فانون، بمساحة تبلغ 4800 متر مربع. وبعد الاستقلال عام 1962، سعت المكتبة الوطنية الجزائرية إلى تطوير القسم العربي لديها، بعد أن كان مهملا في فترة الاحتلال، وتبنت فكرة جمع وشراء المخطوطات من المكتبات العامة والخاصة، وكذلك تشجيع التبرعات. وفي عام 1986 بدأ مشروع بناء مخصوص للمكتبة بمنطقة الحامة بالعاصمة الجزائرية، والذي افتتح في 1 نوفمبر 1994.
وتم تحديد مهام المكتبة الوطنية الجزائرية بالعمل على جمع وحفظ التراث الثقافي الجزائري، على كافة أشكاله كالخرائط والتصاميم الموسيقية والمؤلفات المسموعة والمرئية والمدونة في مخطوطات خام أو كتب مطبوعة أو أوراق شخصية ورسمية والقطع النقدية والأوسمة، كذلك التشجيع على الكتابة والنشر بمنح تصنيفات إيداع للكتب والدوريات للمؤسسات والأفراد. فضلا عن الحفاظ على المطبوعات الرسمية الأجنبية المحصل عليها من خلال تطبيق اتفاقيات التبادل الثقافي والعلمي الدولية، وإتاحتها للباحثين للدراسة والفحص والتحقيق. وتنظيم الأنشطة والفعاليات الثقافية والعلمية من ندوات ومؤتمرات وورش عمل.
وتتميز المكتبة الوطنية الجزائرية بصداها العالمي الكبير نظرا لكم ونوع الكتب والمخطوطات الذي تقوم بالحفاظ عليها، والإقبال المتزايد من المهتمين باحثين وقراء. وعلى الرغم من الظروف المعقدة التي مرت بها الجزائر والكفاح الوطني المستمر عبر تاريخها الطويل، إلا إن المكتبة الوطنية تعد من بين أكبر وأحدث المكتبات والأرشيفات العالمية من حيث المضمون والتقنيات.
وتتنوع المخطوطات المحفوظة في المكتبة ما بين المخطوط الخام والمعاد طباعته، ولكل منها خزانة حفظه بما يليق بمكانتها، فيبلغ رصيد المكتبة الوطنية الجزائرية حوالي 4291 مجلدا ومخطوطا باللغة العربية، وعدد قليل باللغات التركية والفارسية. وتحتفظ بجزء من القرآن الكريم يرجع تاريخه إلى القرن الثالث أو الرابع الهجري، وهو مكتوب بخط كوفي على ورق من جلد الغزال. كما تتنوع موضوعات المخطوطات على حسب ما ورد على الموقع الرسمي للمكتبة بين القرآن والحديث والفقه والتصوف والسياسة والإدارة والفلسفة والمنطق والحساب والهندسة والتقاويم، وكذلك تاريخ الجزائر والمغرب الكبير وإفريقيا، وأيضا في الطب والنحو، والأدب والشعر. بالإضافة إلى ما احتوته قاعة المطالعة من رصيد وثائقي، تم السماح للباحثين بالاطلاع عليه، ويقدر بنحو 1140 عنوان، تم اقتناؤه عن طريق التزويد والهدايا والتبادل. ويصل عدد الكتب النادرة بالمكتبة إلى 3901 عنوانا باللغة العربية ولغات أجنبية. 
وتستقبل المكتبة الوطنية الاهداءات من العامة والخاصة، مؤسسات وأفراد، وتسجل ما تم إهداؤه بأسماء أصحابها وتعرف به الجمهور، ومن أبرز الخزائن المهداة خزانة إمام مسجد كتشاوة الشيخ "بشير بوعناني"، الذي تقدم ورثته عام 2009 بإهداء مكتبته الخاصة، وتبين بعد حصرها أنها تحتوي على 47 مخطوطا، 81 كتابا نادرا، 667 مرجعا حديثا.
ومن أروع المخطوطات التي احتوتها المكتبة مخطوطة "المستملح من كتاب التكملة"، وهو اختصار "الحافظ الذهبي" لكتاب "التكملة" لابن الأبّار في تراجم علماء الأندلس، حيث انتقى منه تراجم واستدرك على بعضها وحقق في البعض الآخر. وقد حقق نسبته "عمار سعيد" الباحث بمركز الملك فيصل. وفيما عرف بالرصيد المغاربي بالمكتبة، نجد واحدا من أقدم الكتب في هذا الرصيد، وهو كتاب "العلاقة بين الأسر والحرية" لإمانويل داروندا، والمطبوع بالفرنسية عام 1662، ويروى قصة العبد إمانويل داروندا في الجزائر العاصمة.
كذلك احتوت المكتبة على رصيد مهم من المخطوطات اللغوية في موضوعات شتى، مثل: "تَحْبير المُوَشِّين في التِّعْبير بالسّين والشّين" للفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط، المتوفي عام 817هـ، ومخطوط نادر في شرح كيفية ترتيب مواد القاموس المحيط وبيان كيفية الكشف عن الكلمة فيه لمحمد بن عبد الله الحسيني الطبلاوي، المتوفي عام 1027هـ، وله أيضا مخطوط مهم جمع فيه الأضداد الموجودة في القاموس المحيط، وقام بترتيبها على حروف المعجم. ولإبراهيم برهان الدين الجعبري المتوفي عام 732هـ تحتفظ المكتبة الوطنية بقصيدة نونية في التأنيث والتذكير بعنوان "تَدْميث التَّذْكير في التَّأْنيث والتَّذْكير". وأخيرا مخطوط في أسامي الذِئْب وكُناه، لأبي فضل الحسن بن محمد الصَّغاني، المتوفي عام 650هـ.
وهكذا، تعمل المكتبة الوطنية الجزائرية على جمع تراث ما ورثه الجزائريون عن أجدادهم، وما تخلف عن تراث الإنسانية بشكل عام، ونقله إلى الأجيال المستقبلية بعد فهرسته وتحقيقه أو تركه على صورته الخام لأهداف علمية. والتعريف بمكانة المخطوطات الجزائرية إقليميا وعالميا، وتحديد مواقع تواجدها والعمل على وضع بيبليوجرافيا لها في العالم، وتوثيق الروابط بين الجزائر ومحيطيها الإفريقي والعالمي، بما يرسخ لمفهوم الدولة الحضارية التي تحمل رسالة راقية وعظيمة تجاه الإنسانية.

* نشر في مجلة الشارقة الثقافية، عدد أغسطس 2017