
د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
لما قدم المهندس المعماري الفرنسي "هوسمان" إلى الإمبراطور "نابليون الثالث" في منتصف القرن التاسع عشر مشروعه الشهير لإعادة تخطيط مدينة باريس، انتشرت في كل بقاع العالم فكرة إعادة تخطيط المدن القديمة، وانتقلت هذه الفكرة تبعا لذلك إلى القاهرة، فقام والي مصر "إسماعيل باشا" بتنظيم جزء عظيم من مساحة القاهرة، وهو الجزء ذو الميادين والطرق الواسعة الفخمة الذي عرف آنذاك باسم حي الإسماعيلية، بالإضافة إلى اهتمامه بتنظيم منطقة الأزبكية التي قلبها رأسا على عقب وكل الأحياء المجاورة لها، لتصبح القاهرة المدينة المنافسة لباريس في الشرق.
لكن إسماعيل نوى إنجاز مشروعه على عجل قبل افتتاح قناة السويس الذي اقترب موعده، وقرر أن تكون الأزبكية مركزا لمشروعه الطموح بتطوير القاهرة ليحاكى تخطيط باريس في كل شيء، لأن تلك البقة سوف تكون مقرا لاحتفالاته الموسيقية والترفيهية بتلك المناسبة، فأمر بالتوسع في تعمير المنطقة الممتدة من شاطئ النيل عند ثكنات الجيش إلى باب اللوق، وكلف كبير مهندسي مصر "علي باشا مبارك" بتحويل تلك المنطقة إلى واجهة حضارية للعاصمة.
اختار مبارك 617 فدانا للحي الجديد، وكان بعضها ما زال أراضي خربة تحتوي على كثبان ترابية وبرك للمياه وأراض سباخ، فخططها وأنشأ فيها الشوارع والحارات على خطوط مستقيمة أغلبها متقاطع على زوايا قائمة، ودكت شوارعها وحاراتها بالحجر الدقشوم. ونظمت على جوانبها الأرصفة. ومدت في أراضيها أنابيب المياه وأقيمت فيها أعمدة المصابيح لإنارتها بغاز الاستصباح، فأصبحت كما قال مبارك: "من أبهج أخطاط القاهرة وأعمرها وسكنها الأمراء والأعيان".

وبعد الانتهاء من رصف الشوارع والأرصفة قام إسماعيل بمنح الأرض للذين سوف يشيدون المباني بشرط ألا تقل تكلفة العمارة عن 2000 جنيها، بهدف بناء عمارات كبيرة عصرية. حتى بلغت المساحة التي شغلت بالمباني في عام 1874 حوالي 257 فدانا، احتلت شبكة الطرق منها 30% وشغلت المباني 13% واحتلت الباقي حدائق شاسعة تمثل الاحتياطي للتوسيع العمراني. وهكذا ظهرت شوارع: قصر النيل، سليمان باشا، قصر العيني، الفلكي، وعماد الدين، وغيرها.

وكعادة أي مشروعات تحديثية تعالت أصوات المعارضين تندد وتحاول التقليل من تلك الأعمال، فعلى سبيل المثال كتب "أرتور رونيه" يصف القاهرة وتطوراتها الحديثة التي حصلت في عهد إسماعيل قائلا: "لقد تطورت القاهرة إلى مدينة حديثة، لكنها أصبحت أقل جاذبية من قاهرة القرون الوسطى ذات السحر الشرقي الفتان. فهؤلاء الأفندية وهؤلاء التجار الذين يخجلون اليوم من الظهور في الشوارع إلا بملابسهم الأفرنجية، كانوا إلى عهد قريب يتمتعون براحتهم الكاملة في قفاطينهم الحريرية الطويلة الواسعة".
وأضاف رونيه: "كانت المشربيات التي تزين واجهات الشوارع قديما تمتد في خطوط متواصلة حتى تختفي عند نقطة التقابل، حيث تبدو مآذن رشيقة ترتفع إلى السماء. أما اليوم فقد اختفت هذه المشربيات، وحل محلها شبابيك مستطيلة لها ضلف من الزجاج، وتم تصفيف المنازل على خطوط متوازية مستقيمة. اختفت إذن هذه المشربيات الجميلة المصنوعة من الخشب المخروط بتفنن، ولم يبق من آثار صناعة الخرط بالقاهرة إلا قطع من الأثاث الغريبة الشكل المصنوعة تقليدا لها. من الآن فصاعدا سوف لا يرى السائح بالقاهرة إلا طرقا واسعة وميادين رحبة عظيمة الطول والعرض، تقوم على جوانبها مباني تافهة يسمونها المباني الأوروبية".