Responsive Ads Here

الأحد، 23 ديسمبر 2018

أوجين جريبو .. فارس أخذ على عاتقه حماية آثار مصر


بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي .. 
يعد عالم الآثار الفرنسي "أوجين جريبو" أحد هؤلاء الفرسان الذين أخذوا على عاتقهم مسئولية حماية الآثار المصرية من النهب والانتهاك. درس القانون ثم الآداب، تعلم اللغة العربية وتخصص في دراسة البرديات، وكان زميل عالم الآثار الفرنسي "جاستون ماسبيرو" في كلية الدراسات المتقدمة عام 1869. نشر في عام 1874 ترجمة مدققة لنشيد آمون رع. وبعد ست سنوات في عام 1881 عين مديرا لكلية الدراسات العليا بباريس حتى عام 1883، ثم شغل منصب مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة لمدة عام، وقرر الاستقرار في مصر ليستكمل أبحاثه، وفي يناير 1886 حصل على رتبة فارس، واصطحبه "ماسبيرو" معه في جولاته بالصعيد، وكلفه بعدة مهام من أبرزها الإشراف على نقل آثار دار التحف المصرية ببولاق إلى المتحف الجديد بقصر الجيزة، وتنظيف أبو الهول وبعض الحفريات المهمة في وادي الملوك، ومساعدته في الكشف عن خبيئة الدير البحري عام 1891، وغيرها من المهام.
ورأى "جريبو" محاولات "ماسبيرو" لفرض وجهة نظره الخاصة بتطوير طرق العمل بمصلحة الآثار التاريخية بعد وفاة "مارييت" باشا، والتي من شأنها حماية الآثار المصرية من النهب والتخريب، لكنه وجد أن "ماسبيرو" أخفق إخفاقات شديدة جعلت مهمته صعبة. فقد كثرت سرقات المواقع الأثرية، وعظمت التعديات على الآثار في عهده، وبالرغم من أنه محاولاته للتغلب على تلك الصعاب، لكنه لم يستطع، لأن الأموال التي رصدتها الحكومة كانت قليلة جدا، وعدد عمال المصلحة اللازم لحل المشاكل غير كاف. إلا أنه تعامل "ماسبيرو" مع الأمر بهدوء، وبدأ جولته الشهيرة بين آثار وادي النيل على متن قارب شراعي قديم بصحبة "جريبو"، لزيارة المواقع الأثرية والتفتيش عليها بنفسه، والتقاط الآثار اللافتة للأنظار حتى يقوم بتنشيط السياحة مرة أخرى، والتي من شأنها أن تدر بعض المال، خاصة وأن مصلحة الآثار قد فقدت وضعها الخاص تحت جناح الخديو "إسماعيل" بعد عزله، وأصبحت في عهد خليفته "توفيق" ذات موارد شحيحة للغاية. وبعد العديد من المحاولات استطاع "ماسبيرو" إقناع الخديو الجديد بسن مجموعة قوانين تكفل حماية الآثار المصرية، فاستصدار مرسوما في 16 مايو 1883 يضم الأنتكخانة المصرية في بولاق والأرض الواقعة عليها إلى أملاك الدولة للانتفاع العام، فلا يجوز استغلالها إلا بأمر حكومي، وهذا المرسوم محفوظ حتى وقتنا هذا ضمن أوراق الأشغال العمومية بملفات مجلس الوزراء في الأرشيف المصري. وبموجبه أصبحت مصلحة الآثار تابعة لنظارة الأشغال العمومية منذ عام 1883. وبناء على ذلك فإن كافة حقوق رئيسها بشأن حرية القرار في مصير الآثار وتوسعات المتحف قد سحبت، ليتولى "جريبو" مهام عمله من بعده وهو منقوص الصلاحيات.
على أية حال، تولى "جريبو" رئاسة مصلحة الآثار المصرية، خلفا لماسبيرو بعد استقالته عام 1886، لكنه اختلف عن سلفه الذي كان يطالب بحماية الآثار وفي الوقت نفسه يخالف مبادئه وينتهك القوانين بنفسه على عكس ما يزعم، فعلى سبيل المثال وليس الحصر اختتم "ماسبيرو" رئاسته للمصلحة بجرم في حق الآثار المصرية، حينما طلب الجنرال "لويس دي سيسنولا" مدير متحف المتروبوليتان، مد متحفه بمجموعة أثرية جديدة، أسرع "ماسبيرو" في استكشاف مقابر طيبة لجمع ما يستطيع لمتحف المتروبوليتان. وكانت المجموعة المختارة هي آثار مقبرة "رمسيس الخامس" من الأسرة العشرين (1350 ق.م)، وكانت كنوزها كاملة، بالإضافة إلى أن مومياء الملك.
ومنذ تولي "جريبو" مهام منصبه واجهته صعوبات كانت في مجملها تراكمات لأخطاء من سبقوه، فقد واجه الأزمة المالية التي كانت تعاني منها المصلحة، وحاول أن يتغلب عليها، كما طالب الحكومة المصرية باتخاذ إجراءات صارمة من شأنها منع الإتجار بالآثار، وأن يخصصوا بعض البنود المالية للمصلحة من موازنة الدولة. إلا أن نظارة الأشغال لم تفعل سوى التصريح للأفراد بالحفر بشرط اقتسام ما يجدونه من آثار مع مصلحة الآثار المصرية، وكان ذلك هو الحل الوحيد أمامها في ظل الأزمة المالية الطاحنة التي كانت تمر بها الدولة. لكن "جريبو" وجد أن ذلك سوف يفتح باب الخداع، فلم تعد تتسلم الحكومة إلا قليل القيمة وعديم الأهمية، مما أغضبه بعد أن قدر ما يتم نهبه من مدينة الأقصر وحدها سنويا بنحو عشرين ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم في تلك الفترة، بالإضافة إلى تلف النقوش وتحطيم القبور نتيجة الحفر العشوائي غير العلمي.
وبإيعاز من "جريبو" أصدر الخديو في عام 1891 عدة مراسيم مهمة كانت لازمة لحماية الآثار المصرية من النهب والانتهاك، فأكد الخديو على قراره السابق (مرسوم 16 مايو 1883) بأن جميع الأشياء الموجودة في دار التحف أو التي سوف توجد فيها مستقبلا تعد من أملاك الحكومة ذات المنفعة العامة، وبناء على ذلك لا يجوز بيعها ولا حجزها ولا امتلاكها. واستكمله بمرسوم آخر في 17 نوفمبر 1891 بألا يجوز للأفراد الحفر إلا بمقتضى رخصة تعطى بناء على طلب مدير عموم دار التحف والحفر بعد النظر في ذلك بمعرفة لجنة مستديمة مختصة بالآثار المصرية، ولا تكون الرخصة صحيحة إلا بعد الإقرار عليها من ناظر الأشغال العمومية، ويكون إعطاؤها من مدير عموم دار التحف والحفر. وأكد المرسوم على أن جميع الأشياء التي يصير العثور عليها بواسطة الحفر تكون ملكا للحكومة بقوة القانون، وينبغي حفظها في دار التحف.
وبعد النظر إلى المصاريف التي يتكبدها مباشر الحفر قررت الحكومة المصرية التنازل عن جزء من الآثار له، وبضغط من "جريبو" وضع المرسوم لذلك بعض القواعد، من أهمها أن يتم تقسيم الآثار إلى قسمين متساويين في القيمة، ثم يقترعان عليهما. كذلك من حق المصلحة شراء أي قطعة من القسم الذي يخص مباشر الحفر، فتقدم المصلحة عطائها وإذا لم يقبله يعرض الثمن الذي يناسبه، وللمصلحة حينئذ الخيار في أخذ القطعة بالثمن الذي حدده أو تركها له بعد أن تحصل منه الثمن الذي عرضته عليه. وقد تحايل "جريبو" على هذه القاعدة بأن وضع بندا ينص على أن للمصلحة الحق في أن تستولي على الأشياء التي تريد شرائها بعد مكافأة مباشر الحفر بمبلغ لا يجوز أن يتجاوز أبدا المصاريف التي صرفت لأجل العثور على هذه الآثار. وأوكل إلى نظارة الداخلية مشاركة الأشغال العمومية في تنفيذ هذا المرسوم.
وفي العام نفسه، صرحت نظارة الأشغال العمومية لجريبو بالنظر في الإعداد والترتيب لمتحف الإسكندرية، الذي كان بذرة المتحف اليوناني الروماني. وقامت المصلحة في عهده بعدة اكتشافات أثرية في مدينة الإسكندرية لجمع الآثار التي تناسب المتحف الجديد، ولكن حفائرها أثمرت عن بعض الآثار المهمة، لكنها تخص تاريخ مصر في عصر الدولة الحديثة، مثل تمثالين للملك رمسيس الثاني وزوجته في وضع الجلوس، وتمثال للملك وحده واقفا.
لم يسلم "جريبو" من مضايقات الإدارة الإنجليزية في مصر، حيث كانت إنجلترا ترغب في تقليص الوجود الفرنسي في مجال الكشف الأثري، فقدمت مشروعا لإعادة تنظيم مصلحة الآثار وتقسيمها إلى إدارتين، بحيث يكون للإنجليز نصيب في إحداهما، إلا أن فرنسا اعترضت على المشروع، مما حدا بالصحف الإنجليزية أن تشن حملات على الموظفين الفرنسيين العاملين بمصلحة الآثار المصرية ووصفتهم بالإهمال والتقصير، فقاومهم "جريبو" بعض الوقت ثم قدم استقالته اعتراضا على التشويه المتزايد والمتعمد لشخصه، واستكمل حياته المهنية كأستاذ لتاريخ الشرق القديم بجامعة السوربون، ليتولى الفرنسي "دي مورجان" رئاسة مصلحة الآثار خلفا له في عام 1892، والذي استكمل جهود "جريبو" في حربه ضد تجار الآثار المحليين والأجانب.