
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
يعد الإيطاليون من أقدم الجاليات التى نظمت وجودها داخل البلاد المصرية، ففي عام 1154م عقدت معاهدة تجارية بين مصر وبيزا. كما عقدت أثناء الحكم المملوكي في عام 1290م معاهدة مع جنوة كانت أساس فكرة المحاكم القنصلية في مصر بعد ذلك، وفي أواخر القرن الخامس عشر منح السلطان قايتباي تجار فلورنسا امتيازات تمنع خضوعهم لأحكام الشريعة الإسلامية. كذلك اعترف العثمانيون عام 1517م بالامتيازات التى سبق ومنحت للإيطاليين في مصر. وحينما تولى "محمد علي باشا" حكم مصر عام 1805م قام بتنظيم الاقتصاد على قاعدة الاحتكار، فبدأ الأجانب يفدون إلى مصر طبقا لما حدده الباشا من شروط ترتبط بالخبرة.
ونلاحظ أن الكثير من الإيطاليين عملوا في خدمة الباشا، وكان معظمهم من العمال وصانعي الطوب والبنائين، من الذين ازدحمت بهم الإسكندرية، وإن اقتضت الظروف أحيانا إلى تواجدهم في أماكن أخرى. ومن المعروف أنهم خضعوا لرقابة حكومية صارمة، لنشاطهم السياسي المتزايد الذي كانوا يمارسونه في فترات الاضطراب في بلدهم إيطاليا.
وفى عهد الخديو "إسماعيل" زاد عدد الوافدين من إيطاليا، للاستفادة من العمل في مشروعاته التحديثية، ومن الطبيعى أن يصبح مع تلك الزيادة الأفراد عائلات، مما جعلهم يفكرون في إيجاد نوع من التعليم الخاص بهم. وقد انقسموا إلى ثلاث طبقات اجتماعية (أغنياء - موظفون – حرفيون).
وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى كان نشاطهم يزداد في المجالات الصناعية أكثر من التجارية، فأسسوا شركة الصنائع المصرية لصناعة الكاوتشوك والأحذية، وشركة صناعة المعادن مع أحد الأسبان فى مصر. وتعتبر فترة الثلاثينيات من القرن الفائت للإيطاليين فترة ذهبية، فأسسوا خلالها شركة الغاز المصرية للتجارة في البترول، وشركة البترول المصرية في الإسكندرية. لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى انخفضت حجم استثماراتهم في مصر، وما أن قامت الثورة المصرية عام 1952 حتى خضعت شركاتهم للإدارة المصرية؛ وبدأت أعداد الجالية الإيطالية تنخفض تدريجيا حتى لم يبق منهم إلا القليل.
وقد كان للجالية الإيطالية نصيب بالمشاركة في ترسيخ الوجود الماسوني في مصر، فكانوا سباقين إلى تأسيس المحافل الماسونية منذ بواكير القرن التاسع عشر، ففي عام 1830 وفد إلى مصر بعض الماسون الإيطاليين وأسسوا في شرق الإسكندرية محفلا جعلوا يجتمعون به، إلا أنهم لم يتظاهروا بماسونيتهم خوفا من الاضطهاد، وما زالوا مواظبين على الطقوس الماسونية حتى كثر عددهم وانتشروا في أنحاء مصر، وانتسب إليهم العديد من وجهاء البلاد فاشتد إزرهم ونشطوا للعمل.

ولكن البعض ينسب بداية النشاط الماسوني الإيطالي في مصر إلى محفل إيطالي تأسس في عام 1849 على الطريقة الإسكتلندية، ورعاه المجلس السامي الإيطالي بشرق روما. ويؤكد "شاهين مكاريوس" تأسيس ذلك المحفل، لكنه لا يقدم له ترتيبا.
وفى عام 1856 أرسل المحفل الممفيسي من فرنسا مندوبا عنه مزودا بتفويض رسمي ليقيم في الإسكندرية شرقا إيطاليا على الطريقة الممفيسية، وفوضه أن ينشيء محافل فرعية تحت رعايته، فتم له ذلك. وفي عام 1859 أسس محافل أخرى تحت وصاية المحفل الأعظم الممفيسي الفرنسي، منها محافل (كايو جراكو - نوفا بمباى) بشرق الإسكندرية و(الكوكب الإسكندري – شنشناتو) في وسط الإسكندرية، ثم نقل المحفل الأعظم الممفيسي نشاطه إلى القاهرة، فأنشأ تحت رعايته عدة محافل منها (أهرام منف - الكون - النيلو- مصر الجديدة - الأبولسك - الجمال - ماتزيني) بالقاهرة، وغيرهم من المحافل التي كانت جميعها في وفاق تام مع المحفل الرئيسي ومحفل الأهرام. ثم وسع المحفل الممفيسي الفرنسي نشاطه وافتتح محافل إضافية في بورسعيد والسويس والإسماعيلية.
كما أسس بعض وجهاء الجالية الإيطالية (المجلس الأعلى الإيطالي) في الإسكندرية، وكان يشتغل بالدرجات الماسونية العليا حتى الدرجة 33 في عام 1864 بتفويض مباشر من المحفل الأعظم الإيطالي، وأعطى له سلطة تشييد محافل أخرى في الجهات المصرية المختلفة. وفي هذا العام كانت الماسونية في مصر تحت رعاية المجلس الأعلى الإيطالي والشرق الأكبر الفرنسي والهيئة العليا الأيكوسية الفرنسية.
ولم تكن المحافل الإيطالية حكرا على الإيطاليين وحدهم، فكان من أشهر رجالات الماسونية الإيطالية في مصر "نجيب عازوري" الذى أسس محفلا يخدم الأهداف التحررية في إيطاليا متأثرا بالحركة القومية الإيطالية، أيضا "إبراهيم لفلوفة" ذو الأصل الشامى من صيدا ومؤسس محفل (مصر الجديدة)، وقد انتخب رئيسا لمحفل (الألوبسك)، ونال الدرجة 33 من الشرق الأعظم الإيطالي ودرجة العقد الملوكي. كذلك "يوسف زنانيرى" الذي كان أشهر أعضاء المحافل الماسونية الإيطالية وذو نزعة إيطالية، وقد وصل به الحد تأييده لإيطاليا في سياساتها تأييدا مطلقا، مما أدى إلى صدور قرار الحكومة الإيطالية بمنحه لقب "كومندور"، نظرا لخدماته الجليلة لمصالح إيطاليا في القطر المصري، كما عين من قبل الحكومة الإيطالية وكيلا للقنصلية الإيطالية في الفيوم. وهكذا تداخل تاريخ الماسونية الفرنسية بصورة واضحة مع الماسونية الإيطالية بمصر، فارتبطا منذ البداية في الطريقة الممفيسية.
مراجع للقراءة:
عمر محمد بكر سليمان: إطلالة على الماسونية ونشاطات محافلها في مصر أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين(القاهرة:جامعة الأزهر، د.ت).
عاصم الدسوقي: الجالية الإيطالية في مصر نظرة عامة (القاهرة: مجلة أوزيريس، المجلد الأول، السنة الأولى، أغسطس 1991).
أحمد عبد الرحيم مصطفى: مصر والمسألة المصرية 1876 – 1882 (القاهرة: دار المعارف، 1965).
وبالنسبة لنشاطهم فى المعاملات المالية والبنوك، أنظر: نبيل عبد الحميد سيد: النشاط الاقتصادي للأجانب وأثره في المجتمع المصري من سنة 1922 إلى سنة 1952 (القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982).
الجريدة الماسونية (عدد 9، السنة 3، 27 مايو 1905).
إلياس زاخورة: السوريون في مصر، ج2 (القاهرة: المطبعة العربية، 1927).
وائل إبراهيم الدسوقي: الماسونية والماسون في مصر، سلسلة مصر النهضة (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، ط2، 2015).
Brinton, J.Y., The Mixed Courts of Egypt (London: 1930).
Cromer, Modern Egypt, Vol. II (London: 1908).