
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
كنت أقرأ على أحد مواقع الإنترنت التركية إحدى المقالات المهمة للباحث التركي "مقصود أوغلو" بعنوان "أسئلة حول حج سلاطنة العثمانيين" Osmanlı Padişahları'nın Hacc Meselesi يدور حول إشكالية عدم ذهاب السلاطين الأتراك للحج، والتي طالما ناقشها بعض المستشرقين الأجانب. ووجدت نفسي أعرب، على موقع من التواصل الاجتماعي، عن رغبتي في أن يتناوله أحد باحثينا بالدراسة والبحث المستفيض، لإلقاء الضوء على الظروف السياسية والاجتماعية التي أدت بالسلاطين إلى عدم الحج رغم اكتمال كل الأركان الواجبة لأداء تلك الفريضة عندهم، وتساءلت عن تأثير ذلك الفعل عند رعايا السلطنة.
الحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة المفروضة، مرة واحدة في العمر، لمن استطاع إليه سبيلا. ومع اعتبار أن الحج رحلة التكاليف، فلماذا لم يستطع سلاطين بني عثمان إليه سبيلا؟ ومن المعروف أنه لم يتمكن أحدهم من الحج سوى الأمير "جم"، وربما لأسباب تتعلق بهروبه، فلم يعد إلى تركيا بعد حجه، ويقال أن السلطان "عبد الحميد الثاني" حج سرا، لكن ذلك من الأمور غير المؤكدة.
تاريخيا، كان وضع الخلافة العثمانية في الجزيرة العربية مضطربا طوال الوقت، فإلى جانب فترة تأسيس الدولة التي دعت الخلفاء إلى التركيز في حماية ظهرهم من الممالك الأوروبية، ظهر خطر آخر في الشرق بعد وصول أسطول البرتغال إلى الهند ونقل جزء من نشاطه الحربي إلى منطقة الخليج العربي، فتطلعت الخلافة العثمانية إلى تلك البقعة بشكل أكثر تركيزا واهتماما من ذي قبل بعد أن استولى البرتغاليون على مسقط وهرمز والبحرين، كذلك قربات وصحار وحور وجزيرة سقطرى، وغيرها من المناطق المهمة على ساحل عمان. وعلى الرغم في أنهم فشلوا في احتلال عدن، لكنهم نجحوا في دخول البحر الأحمر، وضربوا بعض الجزر الجنوبية ثم اتجهوا عام 1517م لاحتلال جدة، وكانت خطتهم التوجه منها إلى مكة لاحتلالها، لكن محاولتهم باءت بالفشل، فكرروها عام 1520م وفشلوا أيضا. وحينما شعر السلطان "سليمان القانوني" ضرب الأسطول البرتغالي بحملة عسكرية ضخمة أرسلها عام 1538م واستولى على عدن، فردت البرتغال عليه بحملة بحرية دخلت البحر الأحمر واتجهت إلى القاعدة العثمانية البحرية في ميناء السويس، لكنها هربت سريعا بعد أن تبين لها أن الأسطول العثماني في حالة تأهب لحماية كل أماكن ولاتها في الحجاز ومصر، لكن الخطر ظل باقيا من احتمالية أي غدر بأي قيادات عثمانية كبرى تطأ بقدميها شبه الجزيرة العربية، خاصة بعد تبديل البرتغال بإنجلترا عدوة الدولة العثمانية الأولى. فهل هناك ربط بين عدم ذهاب السلاطين إلى الحج وتلك الظروف السياسية الحرجة؟
لقد تعود الخلفاء على بعث إرسالية رسمية للحج تحمل العديد من الهدايا والهبات لمكة والمدينة وأهلها، دون وجود الخليفة نفسه، فلماذا ؟!
ومع الحيرة التي انتابتني وأنا أبحث في هذا الموضوع، قررت إثارة تلك الإشكالية التاريخية والدينية – كما ذكرت من قبل – وبالفعل دارت حلقة نقاش مصغرة بيني وبين الدكتور "حاتم الطحاوي" أستاذ العصور الوسطى بجامعة الملك فيصل، والدكتور "أحمد الشرقاوي" المتخصص في الدراسات العثمانية، والدكتور "علي عفيفي علي غازي" الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر، والدكتور "حسام عبد الظاهر" الباحث في مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، والدكتور "مصطفى وجيه" الباحث في التاريخ الوسيط. وحاولنا خلالها أن نلم بجوانب الموضوع في نقاط محددة بعد تساؤل الطحاوي عن لزوم إثارة الباحث "مقصود أوغلو" لتلك الإشكالية التي استخدم الباحثون الأتراك كافة الحجج حولها.
ورأى "الشرقاوي" أن ذلك لم يكن تقاعسا من السلاطين عن الفريضة المتعبة، ولا اكتفاءا منهم بالسيطرة على الحرمين كواجهة للخلافة والزعامة الدينية، لأننا قرأنا كثيرا في أشعار السلاطين العثمانيين - وكثير منهم شعراء - أبياتا وقصائد عن شوقهم للحج ولوعتهم لعدم تمكنهم من آداء الفريضة. وعندما سألته وهل قدموا فى قصائدهم أسبابا لعدم الذهاب للحج ؟ أجاب بالنفي وأضاف أن الأغرب من ذلك أن ثمة فتاوى من شيوخ الإسلام تبرر عدم فرضية قيام السلطان بالحج، والاكتفاء بإرسال من ينوب عنهم، وأن السلطان "عثمان الثاني الشاب" أصر في مطلع القرن السابع عشر على الذهاب للحج رغم النصائح التي قدمت له من كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم شيخ الإسلام "أسعد أفندي"، لكن السلطان أصر على نيته، فكانت النتيجة صدور فتوى بخلعه، وتم خلعه بالفعل، ومن المعروف أن "أسعد أفندي" هو والد زوجة السلطان، وكان معارضا لزواج السلطان من ابنته لأن التقاليد الراسخة في حرملك القصر السلطاني حتمت أن تكون الزوجات غالبا من الإماء وليس الحرائر. إلا أن "الطحاوي" فسر الأمر برمته بأنها حادثة فردية وأن الموضوع لم يتعد التقاعس غير المبرر، لأن الأمر استمر مع عشرات السلاطين طوال الفترة من القرن 16 إلى 20م.
وحينما طرحت عليهم فكرة أن خوف السلاطين من الإنقلاب عليهم أثناء غيابهم الطويل في الحج ربما يكون هو السبب الحقيقي، على الرغم من وجود حالة تاريخية واضحة تجعل خوفهم غير مبرر، تتمثل في حرص ملوك الدولة المغولية المسلمة ممن كان يحيط بهم خطر الانقلاب دائما على الحج. وحينما طرحت فكرتي تعجب "الطحاوي" قائلا: "إننا لو سلمنا بتلك الفرضية ستكون أمامنا دولة هشة استمر خوف سلاطينها لأربعة قرون. وهي لم تكن كذلك أبدا". وطالبني "عفيفي" بأدلة تبرر هذا الطرح المنطقي لكي نصل إلى حقيقة تاريخية مؤكدة، خاصة وأن السلطان "سليم الأول" لما التقى وفد الحجاز عام 1517 في مصر لم يفكر بعد مواجهته للبرتغاليين في زيارة الحجاز فضلا عن الحج، خاصة وأنهم كانوا يخرجون للحرب دون خوف من انقلابات. الأمر الذي دعى "الشرقاوي" إلى القول بأن مسألة خوفهم من حدوث انقلاب ربما كانت المبرر الأقوى، ولا يقاس عليها خروجهم للحرب، فالانقلابات العثمانية تحدث دائما من الانكشارية، وهم القوة الضاربة في الجيش ومعظم قواته، وهم يكونون في صحبة السلطان وكبار قادتهم في الحروب، فالخطر من الانقلابات يكون ضئيلا، خاصة مع الظهير الشعبي الذي يلتف كله حول شرعية السلطان الغائب في المعركة، باعتبار أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
ومما يزيد الأمر تعقيدا أن السلطان "عبد العزيز" ذهب في رحلة إلى أوربا ومصر مصطحبا معه ابن أخيه الأمير "عبد الحميد الثاني" وبعض الأمراء الآخرين، واستمرت الرحلة لأكثر من شهر، رغم خطر الانقلاب الذي تم فعلا بقتل السلطان بدعم خارجي ومؤامرة داخلية. وكان في مقدوره الذهاب للحج بعد أن تيسر الطريق قليلا عبر الطريق البحري. وبالإضافة إلى التفسير المنطقي للشرقاوي، أعتقد أن ما منعه عن ذلك، وهذا المنع ينطبق على كل خلفاء الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر وأوائل سنوات القرن العشرين، خضوع شبه الجزيرة العربية بالكامل للسيطرة البريطانية، وارتباطها بمعاهدات مع الشيوخ، الذين أصبحوا بموجبها لا يتصرفون في أى شيء إلا بعد الرجوع لبريطانيا، بالإضافة إلى الحركة العربية المتنامية آنذاك، التي غذتها حالة العداء بين إنجلترا والدولة العثمانية.. وقد وافقني "الشرقاوي" في هذا الطرح لأن – من وجهة نظره – مشكلة من ينتقدون التاريخ العثماني تكمن دائما في إصدار أحكام كلية على الموضوعات من خلال صور جزئية، والتعميم ظالم في كل الأحوال سواء مع أو ضد، وهذه المسألة - مسألة حج السلاطين - يجب أن تدرس في ضوء الظروف المصاحبة لكل سلطان سياسيا وإداريا وأخلاقيا، فليس الجميع امتنع (إهمالا)، ولا الكثير امتنع ارتباطا بالحرملك، إنما لكل واحد ظروفه كما يبدو.
وطرح "حسام عبد الظاهر" فكرة أن الأمراء والخلفاء الأمويين في الأندلس، وكذلك الخلفاء الفاطميين في مصر، فضلا عن الأيوبيين، لم يقوموا أيضا بعدم أداء شعيرة الحج، وقد وافقه "مصطفى وجيه" مؤكدا على أن خلفاء الأيوبيين أيضا لم يحجوا أيضا بتبريرات مختلفة تستحق الدراسة أيضا كحال سلاطين بني عثمان. ولكن "الطحاوي" اعترض قائلا أن الوضع هنا مختلف تماما، لأن الخلفاء الأمويين في الأندلس وكذلك الفاطميين والأيوبيين لم يبسطوا نفوذهم على الحجاز كما العثمانيين. بل كانوا خصوما لأصحاب النفوذ في الحجاز.
ويذكر "الشرقاوي" أن "أيوب صبري باشا" وصف في كتابه "مرآة الحرمين الشريفين" تفاصيل النقوش واللوحات المكتوبة على جدران الحجرة النبوية الشريفة قائلا: "كتب بخط قديم جلي فوق جهاتها العليا دائرا ما دار القصيدة البليغة الآتية، وإن هذه القصيدة للثناء من الآثار الجليلة التي وفق في تسطيرها السلطان عبد الحميد خان ابن السلطان أحمد خان سنة 1777م".
وكان السلطان عبد الحميد الأول أحد السلاطين الذين يجيدون قول الشعر باللغة العربية، حيث كان بارعا فيها؛ وآية ذلك قصيدته التي اشتهرت باسم "القصيدة الحجرية" المكتوبة على الجدار القبلي، والتي نظمها على وزن البحر البسيط وأهداها إلى صاحب "الروضة المطهَّرة". ومن أبياتها:

* نشر في مجلة تراث الإماراتية، عدد 215، سبتمبر 2017