
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
إن من طبيعة البشر أن ينظروا دائما إلى مشرق الشمس، لدى رؤيتهم النور في فجر حياتهم، وعند بلوغهم سن النضج واكتفائهم عن الحياة، وعندما يشيخون وتميل شمس عمرهم إلى المغيب، وساعة انتقالهم من هذه الدنيا، دائما وأبدا يطلب الناس الشمس والنور. لقد كان الشاعر الألماني جوتة يصرخ دائما "دعوني أرى النور". وهل يأتي النور إلا من الشرق...
في حلقة سابقة من حلقات حديثنا عن التراث السياسي لدول الخليج العربي تحدثنا عن حلم نابليون بمد نفوذ فرنسا إلى شواطئ الخليج بعد أن توجه بحملته إلى الشرق، ومحاولات بريطانيا إفشال مشروعه بشتى السبل. ومن المعروف أن الإنجليز هيمنوا على الخليج العربي طيلة مائة وخمسين عاما، وتدرجت هيمنتهم من مجرد نفوذ اقتصادي إلى نفوذ سياسي ساهم بمرور الوقت في بلورة حالة من الوعي القومي لدى أبنائه، أدت إلى محاولات عديدة لكسر تلك الوصاية والخلاص منها، لتتشكل في النهاية مشيخات وإمارات الخليج العربي على النحو الذي نعيشه اليوم.
لم تكن بريطانيا هي اللاعب الوحيد في الخليج، ولكنها كانت تتميز دوما بوجود بعثة دائمة في المنطقة، الأمر الذي جعلها في مكانة خاصة تسمح لها بإفشال أي محاولات للتدخل في شئون الخليج دون إذنها. وبذلك أصبح هذا العالم الصغير الذي يطل على البحر الزمردي الأخضر نقطة الفصل في الصراعات السياسية والاقتصادية الدولية. لقد حاول الغزاة الأوربيون في سعيهم المتواصل وبحثهم الدائب عن كنوز الشرق أن يقيموا النظام حيث كانت تسود الفوضى، مستهدفين بذلك حماية مصالحهم وتجارتهم من القرصنة؛ فعمدوا إلى مراقبة الحياة واستلام زمام الأمور في هذه المنطقة الحساسة من العالم. فكان البرتغاليون بقلاعهم وحصونهم التي أنشأوها الطليعة لذلك، ثم تبعهم الهولنديون بوكالاتهم التجارية الكبرى يتسابقون على ذلك مع الفرنسيين. وأخيرا وصل الإنجليز الذين اعتمدوا على شركة الهند الشرقية التي لعبت الدور الأساسي والمحوري في التطورات السياسية بمنطقة الخليج العربي، فاستطاعوا أن يزحزحوا كل شركائهم ومنافسيهم ليستأثروا بكل شيء ويقيدوا سكان الخليج بمعاهدات سياسية وعقود ثنائية جعلت من بريطانيا الآمر الناهي.
لقد توصلت بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر إلى القضاء على منافسة الدول الأخرى وفرضت حمايتها على الخليج، مما حدا باللورد كيرزون إلى القول فخرا واعتزازا: "في كل أقسام الخليج نرى صورة بريطانية مسلحة بالسيف ممسكة بيد من حديد عاتق الميزان. وليس من المغالاة في شيء أن يقال بأن حياة مئات الآلاف من البشر أصبحت في مأمن بعد فرض الحماية على الخليج، وأنه إذا خرجت بريطانيا من هناك، عادت الفوضى إلى سابق عهدها".
وبدون الخوض في تفاصيل كثيرة، أصبح في إمكان بريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين أن تقول عنه في وثائقها أنه بحيرة خاصة بها. ولدى أقل محاولة للإزعاج من قبل أي دولة أخرى، كانت بريطانيا تلجأ إلى التهديد وحتى الخوض في حرب إذا اقتضت الضرورة، وقد استطاعت أن تحول دون وصول كل منافسيها إلى الخليج من فرنسيين وعثمانيين وألمان وروس.
ومع ظهور بوادر لاكتشافات نفطية في الخليج العربي في النصف الأول من القرن العشرين استطاعت بريطانيا الحصول على تأكيدات وتعهدات من الشيوخ بمنحها امتيازات نفطية للشركات التي تصدق عليها الحكومة البريطانية فقط. وحينما تم اكتشاف آبار كثيفة خلال ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت بريطانيا في السعي وبإصرار لضمان منح هذه الامتيازات لشركات تملكها.
وعلى الرغم من قوة الهيمنة البريطانية على الخليج العربي بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تستطع أن تفعل شيئا مع حليفتها الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية، التي دأبت تعمل على زحزحة النفوذ البريطاني في المنطقة العربية بأسرها للحلول مكانها. ومع تطور صناعة النفط وتضخم ثروات البلدان العربية، عمل الإنجليز على تشجيع حكام الخليج على استثمار عوائد النفط لديهم في بريطانيا، إلا أن النقد المتزايد لتواجد بريطانيا في الخليج العربي في أواخر الخمسينيات، وانتشار المد القومي في المنطقة العربية بأسرها، أدى إلى منح بريطانيا الاستقلال إلى بعض الدول الخليجية منذ ستينيات القرن العشرين، وبدأت من حينها تغادر الخليج تدريجيا حتى انتهت هيمنتهم رسميا عام 1971، حيث حصلت كل دول الخليج على الاستقلال، إلا أن ذلك لم يكن منحة من بريطانيا، ولكنه نتاج لحركة عربية بدأت منذ بدايات القرن العشرين وشغلت قسما كبيرا من الدولة العثمانية، مما أدى بدوره إلى زيادة اليقظة والوعي لدى أبناء الخليج العربي، وهو ما سنناقشه بإذن الله في حلقات قادمة..
* نشر في مجلة تراث الإماراتية | عدد مايو 2015