
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
أثارت بعض تصريحات الدكتور "يوسف زيدان" بعض الجدل في الأوساط الثقافية العربية، كان أبرزها تصريحه حول المسجد الأقصى وتاريخ بنائه وحقيقة دوره في رحلة الإسراء والمعراج، بالإضافة إلى نفيه أن تكون حضارة مصر ممتدة إلى سبعة آلاف عام، وتأكيده بأن عدد سنين حضارتها لم تتعد الخمسمائة عام، مدللا على ذلك بتعدد مراحل الانحطاط الحضاري التي مرت عليها، وأنه لا وجوب لتضمينها وتضخيم الذات المصرية أكثر مما يجب.
ولقد تعدى هجوم البعض على زيدان حدود اللياقة وآداب الاختلاف، فاتهموه بالعمالة لإسرائيل، وجعل منه البعض شيطانا يهدف إلى تدمير الدين والتاريخ، دون النقاش بموضوعية ومحاولة الوصول إلى صورة متكاملة ربما يتفق عليها كل الأطراف في النهاية، أو الاختلاف بمحبة. فخطاب الحضارة في الأساس هو تحاور وتفاعل وعطاء إنساني.
وبعيدا عن الخوض في مسائل تتعلق بالدين، فإن تركيزنا الأساسي سيكون حول صعوبة الجزم بتوقيت موت حضارة أو انتعاشها، فالحضارة تراكمية تمتزج فيها التقاليد الكبرى للثقافة الممثلة في ملامح متقنة من عقيدة ونظم حكم ونظام كتابة وإبداع في الفنون والمعمار. وفي مصر على سبيل المثال، تلاشت تلك التقاليد جميعها بحلول أواخر الفترة القديمة وبداية العصر المسيحي، إلا أن الناس حافظوا على الكثير منها بما ضمن لها الاستمرارية في بعض جوانب حياتهم. ويتفق عالم الأنثربولوجي "دوجلاس بريور" مع تلك الرؤية، فمن الناحية الاقتصادية لم تتعرض مصر للانهيار، وضمن لها فيضان النيل المصدا المتجدد من الأراضي الخصبة القابلة للزراعة، ولم تتعرض الموارد الطبيعية للاستنزاف مطلقا على نحو ما شهدت بلاد النهرين. ومن الناحية السياسية لم يحدث انفراط في عقد الدولة المصرية يقارب مثلا الانهيار الكامل لروما، فقد قاومت مصر فترات اللامركزية والغزو الأجنبي، ولم تتغير حدود الدولة الأساسية، التي ظلت كما هي في عصر البطالمة والرومان والعصر المسيحي والإسلامي، وهكذا لا يمكننا التحدث عن تشرزم مادي للدولة المصرية يهدد تقاليدها الموروثة والتي تشكل في مجملها بؤرة الحضارة. وعلى المستوى الديني استمر النظام اللاهوتي مؤثرا بقوة، فاليونان والرومان صاروا تابعين لعبادة إيزيس، بل أن تلك العبادة انتشرت عند معظم شعوب البحر آنذاك. فضلا عن بناء المسيحيين كنائسهم على أنقاض المعابد المصرية الوثنية.
وعلى الرغم من فقدان المجتمع المصري حيويته نتيجة عصور الانحطاط التي مرت عليه، إلا أن الأفكار المستوحاة من الحضارة المصرية تمتزج به، وعلى ذلك يبدو أن القول بموت الحضارة المصرية القديمة لا يتناسب وحجم المظاهر العديدة للثقافة المصرية التي استمرت إلى يومنا هذا، إلا أن ذلك لا يسمح بأن يتم تضخيم الذات إلى درجة يمكنها تزييف الوعي الجمعي لدى الناس والعيش على إرث المجتمع في الماضي دون العمل على نهضته.
* نشر في روز اليوسف (30 يناير 2016).