
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
للبحث العلمي أركان مهمة بدون أي منها سيفقد البحث جودته وجديته، فهو عدة تساؤلات يشوبها بعض الغموض تدور في ذهن الباحث حول موضوع معين اختاره ليكون أطروحته التي سيتقدم بها إلى هيئة علمية ما، لينال درجة علمية، يستطيع من خلالها شق طريقه الأوسع في مجال تخصصه.. تلك التساؤلات تحتاج إلى تفسير وإجابات شافية لها. ولتحقيق ذلك يجب أن تتوفر المصادر الضرورية التي تحتوي على إجابات مبدأية يستطيع من خلالها صياغة فرضية البحث لعمل خطته بعد قراءة أولية استطلاعية، يستطيع خلالها التأكيد على أهمية موضوع بحثه، وتحديد صياغة نهائية لعنوانه، ثم تحديد المصادر الأولية التي يمكنه من خلالها تحقيق النتيجة المرجوة من البحث.
الحقيقة أن مرحلة الحصول على مصادر علمية هي أكثر فترات البحث مشقة، ومليئة بالمصاعب التي نستطيع من خلالها الحكم على طبيعة الباحث نفسه، وتقدير موهبته وصبره وقوة احتماله. إلا أنه أحيانا تتوفر في الباحث كافة مقومات النجاح، ولكنه يصدم بمتاعب ومصاعب تجعله متعثرا غير قادر على استكمال العمل، أو استكماله ولكن بشكل لم يكن يرغب فيه.
إن المصاعب التي يواجهها الباحث لا تفرق بين من يعملون في العلوم التطبيقية العملية أو العلوم النظرية، فالصعوبات نظريا واحدة، تختلف في طريقة التطبيق فقط. ولكننا سنركز في هذا المقال على المصاعب التي يواجهها الباحث في مجال العلوم الإنسانية والتاريخ تحديدا..
إن البحث في مجال التاريخ في مصر عبارة عن حلقة متصلة من العثرات، التي ما أن قام الباحث من واحدة حتى تعثر في أخرى. وعلى الرغم من أن الدولة تتحمل العديد من أسباب وقوع الباحث في مطبات ومشاكل جمة أثناء العمل في البحث، ولكن في بعض الأحيان تكون العثرات متمثلة في ضعف إمكانيات الطالب نفسه، نتيجة عدم تأهيله التأهيل المناسب الذي يمكنه من التغلب على أية مصاعب، فليست كل أقسام التاريخ في الجامعات المصرية بها من الكوادر التي تستطيع بناء عقل الباحث وتدريبه فى المرحلة التمهيدية قبل تسجيله للماجستير، الذي هو بدوره مرحلة تدريبية ثانية قبل خوض معركة الدكتوراه، وبالتالي يفاجئنا الباحث بأطروحة ضعيفة من حيث التناول واللغة والصياغة وضعف المادة العلمية ومنهج البحث، وغيرها من الجوانب السلبية المعروفة عند تقييم الرسالة العلمية.
ولكن إلى جوار هذا الباحث الضعيف توجد منظومة أضعف تدير البحث العلمي في مصر، ولا تساعد على تنميته بما يعود بالنفع على الوطن. فلا مراكز أبحاث مجهزة بحيث تحقق كافة متطلبات الباحث، ولا قواعد بيانات علمية كاملة يستطيع الباحث الاعتماد عليها لإخراج بحث عالي الجودة، ولا ربط بين البحث العلمي ومنظومة الإنتاج اللازمة للتعريف بالبحث، سواء على صعيد العلوم التطبيقية أو النظرية، ولا تقديم مساعدات حقيقية للباحث يمكنهم من خلالها تحقيق التميز المطلوب.
وفي هذا التقرير سنستعرض من خلال تجارب الباحثين في مجال الدراسات التاريخية أهم الأسباب التي تعرقل مسيرتهم أثناء إعداد بحوثهم العلمية، التي تم التصديق عليها من كلياتهم التابعة لجامعات مصرية بموافقة أكبر الأساتذة الخبراء في مجالات الدراسات التاريخية المختلفة.
تبدأ رحلة الباحث في التاريخ بحصوله على سنة تمهيدية للماجستير يبدأ بعدها في البحث عن موضوع لتسجيله في كليته، وبعد مداولات كثيره مع مشرفه يتم اختيار اسم الموضوع، الذي يستلزم عمل خطة مبدأية تحتوي على مقدمة وشرح لطبيعة الموضوع والأسئلة التي يجب أن يجيب عليها أثناء إعداده واستعراض لمنهج البحث المحتمل الذي سيسير عليه، وكتابة فصول مبدأية لدراسته قد تتغير وتتبدل مع الوقت دون الحيد عن عنوان البحث الرئيسي، وأخيرا استعراض لأهم المراجع والمصادر التي سيستعين بها الباحث. وبمجرد موافقة أساتذته ومجلس القسم والكلية ثم مجلس الجامعة يكون بذلك قد حصل على كافة الموافقات الضرورية واللازمة لبداية مشواره البحثي. وما ذكرناه في بضعة أسطر قد يستغرق من الباحث وأساتذته عاما أو عامين حتى يتم الوصول إلى صيغة ملائمة، يستطيع بعدها البدء في مشوار جمع المادة العلمية من كافة مصادرها.
والسؤال المهم هنا، لماذا تحتاج بعض الجهات إلى موافقة أمنية تسمح باطلاع الباحث على وثائق موضوع ما يعالج فترة تاريخية "انقضت"، بعد أن قام الباحث بعرض بحثه على أساتذته المختارين بعناية من الدولة، بحيث لا يشكلون خطرا على أمن البلاد، وقد وافقوا على البحث وأخذوا بدورهم موافقات مجالس الأقسام والكليات ومجلس الجامعة.. ألا تكفي كل تلك الموافقات من جهات علمية موثوقة داخل مؤسسات الدولة وتقدر معنى وقيمة الأمن القومي المصري وتعمل على الحفاظ عليه؟ ولماذا موافقة أمنية تعرض البحث للتدمير بعد أن نال كل تلك الموافقات وتضيع على الباحث جهد سنين من الاختيار والإعداد.. ولماذا لا تقرر الدولة ضرورة الحصول على موافقة أمنية قبل البدء في إجراءات تسجيل الموضوع..
ذات مرة سألتني إحدى الطالبات مباشرة، إلى متى سنعامل كالمجرمين؟ فقلت لها لماذا تقولين ذلك؟ فأجابت: كنت أعمل في بحث يتعلق بتاريخ اليهود في فترة تاريخية مبكرة، وعندما قدمت طلبي بالاطلاع على بعض الوثائق المتصلة بالموضوع في الأرشيف المصري، تأخرت الموافقة جدا، وحينما أتت كانت بالاطلاع فقط دون التصوير، وحتى بعد أن حصلت على الموافقة وبدأت في طلب الوثائق الضرورية للبحث، كانت الموظفة المختصة تعاملني كالجاسوسة، وكنت أتعرض لمواقف سخيفة ومحرجة جدا، ورغم حصولي على موافقة إلا أنهم كانوا يحجبون بعض الملفات عني دون وجه حق، وكأنني لست طالبة "علم" حصلت على موافقة "الجامعة" من "أساتذة" أجلاء، حتى أن أحدهم وهو مختص بأحد المجالات الفنية في الأرشيف المصري وليست له علاقة بالتاريخ قال لي "روحي غيري الموضوع أحسن"، كيف أعطى لنفسه هذا الحق والقائم على رئاسة وإدارة الأرشيف المصري علماء أجلاء مختارون بعناية من رأس الدولة ويقدرون الباحث ويحترمون اختياراته ومنهم من يشرف على مثل تلك الموضوعات؟!
وبدون الإسهاب في سرد حكايات مشابهة في موضوعات تتعلق بالبحث في تاريخ إسرائيل والقضية الفلسطينية وبعض موضوعات تتعلق بجماعات معينة أو علاقات دولية أو غيره، بل وبدون الخوض في حكايات أكثر فزعا يعامل فيها الباحث كالمجرم باستدعائه لمقار الأمن واستجوابه كالمجرمين، نسأل: ما هي المعايير التي يمكن من خلالها الحكم على بح [Anchor] ث بأنه خطر على أمن مصر القومي، وإلى أي وثيقة أمن قومي تم تحديد تلك المعايير، ولماذا لا تعلن وثيقتنا للأمن القومي لكي يجنب الباحث نفسه عناء الخوض فى تلك الموضوعات منذ البداية، حتى لا يتعرض بعد حصوله على كافة الموافقات العلمية والإدارية لكل تلك المضايقات من الموظفين غير المتخصصين في التاريخ أو أي علم من العلوم؟
* نشر في روز اليوسف (31 أكتوبر 2015).