Responsive Ads Here

الأحد، 27 مارس 2016

علي بهجت: رائد من رواد المدرسة الوطنية لعلم المصريات


بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي .. 

أحد أهم علماء المصريات الذين عملوا على تأسيس مدرسة وطنية لهذا العلم. وهو من أصول تركية، عمل جده "علي أغا" في خدمة الحكومة المصرية سنوات طويلة بمديرية الشرقية، حيث تزوج قبل أن يستبدل حقه بالمعاش أرضا زراعية بقرية (باها العجوز) في مديرية بني سويف، وهناك ولد حفيده "بهجت" عام 1858، والذي تخرج في المدرسة الناصرية الابتدائية بالقاهرة، ليلتحق بعدها بالمدرسة التجهيزية، ثم المهندسخانة التي لم يجد فيها ما كان يصبو إليه من فتوح العلم والمنهج، فانتقل منها بعد بضع سنوات إلى مدرسة الألسن، وتتلمذ فيها على يد الشيخ "حسونة النواوي"، ثم كرس جهده في دراسة التاريخ والآثار، حتى اختاره وكيل نظارة المعارف "يعقوب أرتين" للعمل مع البعثة الفرنسية للآثار الإسلامية، وكان مساعدا لها في قراءة النصوص والمخطوطات العربية، ليمكنه بذلك من أن يواصل دراسته في دائرة علمية ليمارس عمليا ما يعوضه عن السفر في بعثه إلى أوروبا.
وقد عمل "بهجت" خمسة عشر عاما مع علماء الآثار الأوروبيين، وكان أشد ميلا إلى دراسة الآثار العربية والتاريخ الإسلامي، وقرر التعمق في المعرفة بدراسة اللغات العربية والتركية والفرنسية والألمانية والإنجليزية. وكان يماثل "أحمد كمال" ولكن في مجال الآثار الإسلامية، فكان أحد المناضلين في معركة تكوين مدرسة مصرية للآثار الإسلامية في ظل سطوة الإمبريالية الغربية، غير أنه تعلم من الأوروبيين مثلما فعل "كمال"، وعمل بجد واجتهاد لينال اعتراف الأوساط العلمية الدولية.
وترقى "علي بهجت" في وزارة المعارف إلى مفتش بالتعليم الإبتدائي، ثم رئيسا لقلم الترجمة. وقد انضم "بهجت" في شبابه إلى جمعية سرية وكاد يفقد وظيفته نتيجة اصطدامه بمستشار المعارف البريطاني "دوجلاس دانلوب" بسبب غطرسته، مما اضطر "بهجت" إلى إثارة الرأي العام ضده بكتابة عدة مقالات بجريدة "المؤيد" بدون توقيع. إلا أن "دنلوب" اكتشف كاتب المقالات وبدأ رحلة اضطهاده، حتى تدخل وكيل نظارة المعارف "يعقوب أرتين" لحل الأزمة، فقرر إلحاقه بلجنة حفظ الآثار العربية في عام 1900، ولكن "بهجت" قرر ترك عمله في نظارة المعارف بعد أن أكمل مدة خدمة وصلت إلى عشرين عاما، وتفرغ للجنة حفظ الآثار العربية ودراسة الآثار الإسلامية بكامل وقته.
وعلى الرغم من نبوغ "بهجت" في مجاله ورغبة ناظر المعارف "حسين فخري" ووكيله "يعقوب أرتين" في تعيينه ناظرا للأنتكخانة العربية الجديدة في جامع الحاكم بأمر الله، وما كاد يعلم الألماني "هرتز" باشا بإنشاء تلك الوظيفة الجديدة، حتى سعى إلى اقتناصها لنفسه بعد مساعي استغرقت قرابة العام، بوصفه كبيرا لمهندسي لجنة حفظ الآثار العربية، وتم تعيين "بهجت" وكيلا للمتحف، مما أثار سخطه بشده وطلب إحالته على المعاش رافضا دون خوف تخصيص الرئاسة دونه لأجنبي، ولكن المسئولين عملوا على استبقائه ريثما ينتقل المتحف إلى مبنى باب الخلق الجديد.  إلا أنه حينما انتقل المتحف إلى المبنى الجديد بباب الخلق سنة 1903، تم تغيير المسميات الوظيفية نتيجة مساعي الألماني "هرتز" الذي علم بنية الوزير ووكيله، فصدر قرار بتعيينه أمينا عاما لمتحف الفن العربي، وتم تعيين "بهجت" أمينا مساعدا له. ولم يرتق إلى رتبة الأمين العام إلا بعد أن رحل "هرتز" عن مصر بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم مديرا عاما فيما بعد.
وعمل "بهجت" على استكمال أعمال تنظيم المتحف وتبويب محتوياته، والتي كان قد بدأها مع "هرتز" قبيل رحيله، كما وضع أول دليل علمي لمحتويات المتحف، وضاعف من مقتنيات المتحف، وبدأ مشروع الكشف عن مدينه الفسطاط، التي حمل منها إلى المتحف كل ما يمكن نقله من أواني الخزف، التي تمثل شتى عصور الفسطاط، كذلك الأحجار والشواهد والخشب والنحاس والجلد والزجاج. وكشف عن أساسات مباني المدينة. كما كشف عن سور الأبراج الذي أقامه صلاح الدين الأيوبي إلى الشرق من الفسطاط.
كان "بهجت" متصلا بالعلماء في الخارج عن طريق سفره إلى المعارض والمؤتمرات الدولية، وزياراته إلى دور الكتب والجمعيات العلمية. كما نشر عددا مهما من المقالات في الصحف بدون توقيع، وكان أحيانا يوقع باسم "أثاري"، وله مقالات عن أقوال المؤرخين العرب بخصوص الأهرام، وتراجم للرحالة العرب، ودراسات عن بيمارستان المنصور، وعن مركز مصر التاريخي، وجغرافيتها في العصر المملوكي. كما ترجم إلى العربية كتاب المهندس الأثري هرتز باشا عن "مدرسة السلطان حسن" في عام 1902، وقد استخدم في هذه الترجمة، المقابل العربي لمصطلحات الفنون والصناعات، ولم يكن يتردد في الرجوع الى الحرفيين والصناع يستعير منهم ما درجوا على استعماله منها في شتى أعمالهم الفنية وصناعاتهم.
ومن المعروف أن "بهجت" هو الذي وجه اهتمام المثقفين العرب إلى كتاب "صبح الأعشى"، حينما كتب عنه بحثا قدمه إلى مؤتمر المستشرقين بروما عام 1899، فأعان ذلك الكتبخانة المصرية على تجميع أجزائه المبعثرة ونشره. كما اكتشف "بهجت" خلال إحدى جولاته بمكتبة أكسفورد "ديوان قانون الرسائل" لأبي القاسم علي بن منجب بن سليمان، وهو من أهم كتاب الرسائل في دولة الفاطميين بمصر. فقام بنسخه وقدم له،وشرحه ونشره على نفقته في عام 1905. كذلك كان له الفضل في نشر كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري، وقدم له وشرحه، ونشرته جمعية نشرالمؤلفات العربية عام 1901.
وتقدم "علي بهجت"بدراسات إلى المجمع العلمي المصري، منها دراسة عن وثيقة زواج الجنرال عبد الله منو القائد العام للجيش الفرنسي في مصر بعد مقتل كليبر، والذي اعتنق الإسلام لينال زبيدة. وفيه تقصى أخبار أسرة هذه السيدة. كذلك بحث عن صناعة النسيج بمصر في العصر الوسيط. ودراسة حول احتلال دمياط إبان الحملة الصليبية السادسة، وتحليل لمرسوم للسلطان خوش قدم، فضلا عن بحث مهم حول بعض لقيات أثرية وجدت بحفائر الفسطاط. وبحث عن باب مكثف بالنحاس ذي ضلفتين بمسجد برسباي بالخانقاه. كما خصص "بهجت" لحفائر الفسطاط مؤلف بالفرنسية، طبع بباريس عام 1920. وقبيل وفاته  نشر في باريس كتاب عن "الخزف والسيراميك المصري" احتوى على 142 لوحة.
توفي "علي بهجت" في 27 مارس 1924 بين كتبه وأوراقه، في بيته الذي كان يسكنه بالمطرية، وشيعت جنازته دون مشاركة رسمية أو غير رسمية من قبل الحكومة.