تأليف: آية سعد الدين
تقديم ومراجعة: د. وائل إبراهيم الدسوقي
"ولدي.. اجعل واجباتك الدينية قبل أي واجبات أخرى، الدين ثم بناء الدولة القوية، لا تمنح تفويضا دينيا لرجال مهملين، كفرة أشرار، أو مبددين غير مبالين أو عديمي الخبرة. لا تترك إدارة الدولة تحت إمرة هؤلاء الناس، لأن أحدا لا يخاف الخالق لن يحرص على ما أنشأته، ومن يرتكب مثل تلك الخطيئة الكبرى لن يكون ولاءه لك... تجنب القسوة والبدع، قم بعزل الرجال الذين ينتهجون القسوة ويروجون للبدع من ولايتك، هؤلاء الناس سيسقطونك. لا تتوقف عن توسيع الدولة عن طريق الجهاد، لأنه إذا لم تقم بحملات لفترات طويلة ستواجه حماقات تؤثر على جرأة الجندي وعلى معرفته، كذلك القادة الذين يعرفون كثيرا، سوف يموتون ويأتي بدلا منهم عديمي الخبرة، فتقع في العديد من الأخطاء وتصاب الدولة بأضرار كثيرة".
بتلك النصائح بدأ السلطان العثماني "عثمان بن أرطغرل" رسالته إلى ولده "أورخان"، والتي انعكست على طريقته في حكم دولته، ودستورا لمن أتى بعده من سلاطين، عملوا قدر الإمكان على توسيع رقعة الدولة العثمانية التي استطاع مؤسسها "عثمان" أن يؤلف تشكيلا سياسيا مثل الدولة العثمانية في منطقة اتسمت بوجود العديد من القوى المنافسة. والذي استطاع مستغلا الفوضى والإهمال الذي سيطر على الأراضي البيزنطية بهضبة الأناضول أن يوسع رقعة حكمه. ومن المعروف أن أول صدام بين البيزنطيين وعثمان الذي كان يتهدد منطقة نيقية هو معركته معهم في "قوين حصار" عام 1301م. ولما كانت بيزنطة مشغولة بالفتن والقلاقل في العاصمة وفي البلقان، فضلا عن صدامها مع أعدائها الأقوياء في الإمارات الساحلية، فقد فشلت في أن تتحرك ضد عثمان بقوة وسقطت في يد العثمانيين أماكن كثيرة كان عليها أن تدافع عن نفسها بقواتها المحلية دون دعم من بيزنطة.
وحينما رأى البيزنطيون سقوط مدينة "بورسة" سنة 1325م دون قتال بعد حصار دام نحو عشر سنوات، قرر الإمبراطور الشاب "اندرونك الثالث" ألا تسقط "نيقية" في يد العثمانيين، فجهز جيشه للهجوم على قوات "أورخان غازي" الذي تولى مقاليد الحكم بعد وفاة والده "عثمان" سنة 1326م، ولكن خسارة الإمبراطور كانت عظيمة أثناء المواجهة، فوقعت "نيقية" في يد "أورخان" سنة 1331م، وفي عام 1336م سقطت إمارة "قره سي" والتي قرر السلطان بعدها أن يتفرغ لبناء دولته، واستمر في ذلك لمدة عشرين عاما دون أن يقوم بأي حروب، وعمل على تأسيس نظم مدنية وعسكرية، وعزز الأمن الداخلي، واهتم ببناء المساجد ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة الشاسعة.
ولقد استطاعت "آية سعد الدين" دراسة عصر "أورخان" بإجادة تامة، وتتبعت مراحل عصره والتي قدمته له بدراسة لنشأة الدولة العثمانية. ثم قسمت دراستها بعد ذلك إلى قسمين، القسم الأول منها وهو موضوع الفصل الأول عن سيرة حياة "أورخان غازي"، فكتبت عن مولده ومراحل حياته وقيادته للجيوش ومحاولاته لتوطيد أركان دولته وبناء دولة حديثة، وإبراز أهم العوامل التي ساعدته على تأسيس دولته.
أما الفصل الثاني فقام بتسليط الضوء على الطريقة التي اتبعها "أورخان" لوضع اللبنات الأولى لتأسيس أقوى جيوش عصره، والذي استند في تأسيسه على جنود الإنكشارية، وهم طائفة من الجنود المشاة الجدد، تطوعت للخدمة وسط صفوف الجيش العثماني، فأصبحوا قوة برية ضاربة رئيسية لا يستهان بها في الحروب ضد أعداء الدولة، كذلك سلطت الباحثة الضوء على تأسيس القوة البحرية العثمانية، والتي ساعدت على إسقاط العديد من المدن الساحلية طيلة العصر العثماني.
إنه "أورخان غازي الأول" ثاني سلاطين بني عثمان، الذي قامت "آية" بالتأريخ لعصره ملتزمة بالمنهج العلمي في تناولها لموضوعات الدراسة، فأجادت في التزام الخط العلمي الذي استند إلى مادة علمية محترمة بذلت جهدا كبيرا في الحصول عليها، واستخدامها بطريقة انتهت إلى تقديم البحث بتلك الصورة التي بين أيدينا. فإلى جانب كونها أديبة واعدة فهي في الأساس باحثة في التاريخ والآثار تمتاز بالوعي الذي يؤهلها للكتابة في مثل تلك الموضوعات التاريخية المهمة.
وفي النهاية نتمنى لآية مزيدا من النجاح في حياتها كأديبة وباحثة، ودوام التقدم والرقي والاستمرار في الكتابة الجادة التي تضيف إلى المكتبة العربية بما يساعد على النهوض بمجتمع عربي ناضج يفهم التاريخ ويتعلم منه، اسأل الله تعالى لها التوفيق والسداد..