
مع بزوغ فجر النهضة الأوروبية الحديثة، وقيام حركة الكشوف الجغرافية، بذلت محاولات أوروبية من قبل البرتغال بالنزول إلى الشريط الساحلي الذي يدور حول إفريقيا واكتشافه. وفي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وجدت محاولات أكثر جدية للتوغل في داخل إفريقيا؛ وعلى سبيل المثال رحلات "جيمس بروس" James Bruce الذي تقدم من مصوع على ساحل البحر الأحمر إلى داخل الحبشة حتى وصل إلى بحيرة تانا، وتابع السير في مجرى النيل الأزرق حتى التقائه بالنيل الأبيض (1770- 1772)، كذلك قام "منجو بارك" Mungo Park برحلتيه إلى نهر النيجر (1805، 1895).
ومع أن تلك الرحلات الاستكشافية نجحت إلى حد كبير، إلا أن متابعة أي رحلة للوصول إلى منابع نهر النيل كان أمراً بعيدا عن متناول الجميع، ويرجع ذلك لاختلال الأمن وتعذر الانتقال والحروب الأهلية، ولذلك كان يستلزم كشف منابع النيل قيام حملات عسكرية قوية يصاحبها المستكشفون، وكانت كثير من تلك الرحلات تحت رعاية أو بتوجيه مباشر من حكام مصر في القرن التاسع عشر، كما يتضح في ثنايا هذا الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه للقارئ.
وقبل أن نتعرض لمحتوى الكتاب، يجب أن نلقي الضوء على مؤلفه، وهو الجغرافي البروسي الدكتور "فريدريك بونولا" Frederico Bonola، وعلى الرغم من أن سيرته الذاتية مجهولة لنا، إلا أننا نمتلك بعض المعلومات البسيطة التي يمكننا التعرف عليه من خلالها، فقد عاش بمصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتولى منصب نائب رئيس الجمعية الجغرافية الخديوية في عام 1876م، وكان يشاركه في هذا المنصب آنذاك الجغرافي "فيجاري بك" Figari.
وأبرز ما وصلنا من أعمال "بونولا": تلك الملاحظات التي دونها بالفرنسية عن الجمعية الجغرافية الخديوية في عام 1883، وكذلك كتب بالفرنسية عن (المتحف الجغرافي والإنثربولوجي بالجمعية الجغرافية الخديوية، بالقاهرة 1899)، ويعتبر هذا الكتاب دليلا قام فيه بحصر كافة محتويات هذا المتحف، وموارده في تلك المرحلة، مع لمحات عن تاريخ الجمعية الجغرافية وأقسامها. وكتاب (مصر والجغرافيا) هو العمل العلمي الذي تقدم به "بونولا" للاشتراك في المؤتمر الجغرافي الدولي، الذي دعت له الجمعية الجغرافية بباريس في عام 1889، وبعد موافقة الجمعية الجغرافية الخديوية على موضوع البحث الذي سيشترك به "بونولا"، كان هذا السِفر الذي بين أيدينا، والذي يُعد تقريرا للأعمال الجغرافية التي أنجزها "محمد علي باشا" وخلفاؤه.
لقد أراد "بونولا" التأكيد على أن حكام مصر في القرن التاسع عشر فطنوا إلى أهمية الجغرافيا، فلما عهد إلى "محمد علي" بأمر مصر عزم على تنفيذ مشروعين مهمين، أولهما: البحث عما بالبلاد من موارد الثروات. وثانيهما: توسيع حدوده وجعلها ممتدة الأطراف. ومن المعروف أن "محمد علي" حينما أمر بإرسال جنوده لمحاربة الوهابيين سنة 1811، تحت قيادة "طوسون باشا"، أمر بأن ترسم خريطة مختصرة ببيان المواقع، بهدف اهتداء الجنود بها في سيرهم وتحركاتهم الحربية. ومع طول العمليات الحربية عني الضباط المصريون والأجانب برسم الطرق والدروب التي يسلكها القائدان "طوسون باشا" و"إبراهيم باشا" بواسطة البوصلة، فعينوا المسافات وقدروها، وحددوا مواقع الجبال ومجاري المياه، وذكروا أموراً كثيرة فيما يتعلق بعلم الجغرافيا وطبوغرافية تلك البلاد، وقد يسرت تلك المعلومات للعلماء رسم الخرائط الحربية لمساعدة الجيوش.
وقد أشيع أن أهل جنوب مصر يمتلكون العديد من الثروات، كتلك الموجودة في البوادي التي يجهلها أهل مصر. وسرعان ما استعان الباشا بمختصين أجانب في أعمال التنقيب، مثل "فريدريك كابو" في سنة 1816، و"فورني" سنة 1819، و"برتن" سنة 1821. وهما الذين جابوا مصر لاستكشافها لحساب الباشا، ورسموا العديد من الخرائط للمواقع المصرية. وأرسل ابنه "إسماعيل" إلى السودان لفتحه واكتشافه حتى وصل إلى النيل الأبيض، وسرعان ما لحق به "إبراهيم باشا" في عام 1821 ليتقاسم معه اكتشاف بقية السودان ومنابع النيل.
ومن المعروف أنه مع كثرة البعثات الاستكشافية والرحلات إلى الجنوب، أصبحت أهمية الجغرافيا والمشتغلون بها في مصر تتزايد يوما بعد يوم، وفطن "محمد علي" لتلك الأهمية، وأمر في سنة 1832 بتدريس الجغرافيا بمدرسة الألسن، وعهد بالقيام بهذا الدرس إلى "رفاعة رافع الطهطاوي". ونفهم من حديث "بونولا" أن حروب "محمد على باشا" وغزواته، جاءت على علم الجغرافيا الحديث بالعديد من الفوائد، بزيادة الحصول على معلومات وأخبار لم يكن للعلماء معرفة بها من قبل، كما يسرت أعمال العلماء العاملين تحت سلطانه بمعرفة تركيب الأراضي وتكوين طبقاتها في مصر أثناء البحث فيها على مواطن المعادن والثروات. ولا غرو أن تقدمت المعارف في عهده، وعادت العلوم إلى بهجتها الأولى، ولبى دعوته كثير من العلماء الأجانب البارعين في مجالات مختلفة ومنها علم الجغرافيا، فوضعوا قواعد العلوم الجيولوجية والفلك والإحصاء.
كذلك يلقى الكتاب الضوء على الجهود الجغرافية لخلفاء "محمد علي"، فقد شهدت فترة حكم "عباس الأول" [1848 – 1854] عمل أول تقويم مصري (أي النتيجة السنوية) على يد "محمود باشا الفلكي". وفي سنة 1850 ظهرت الخرائط الأولى التي رسمها "لينان"، والتي كان قد بدأ في رسمها منذ عام 1840، والخاصة بالمياه والجزر المصرية وقرى الوجه البحري. وفي عهد "سعيد باشا" [1854 – 1863] شغلت بالَ الجغرافيين فكرة لزوم الجزم بحقيقة منابع النيل، والوقوف على أسرار نهر النيل، فتقدم الكونت "ديسكيراك دولونور" إلى "سعيد باشا" وعرض عليه تقريرًا بيَّن فيه كيف يكون حل هذه المسألة. ونال هذا التقرير استحسان الباشا، ولكن المشروع لم ينفذ على الرغم من أن "سعيد" أوقف عليه أكثر من مليون فرنك لإنجازه.
ويصل "بونولا" في معرض حديثه عن عهد الخديو "إسماعيل" [1863 - 1879] إلى نتيجة مفادها أن الحكومة المصرية، كان جل اهتمامها آنذاك هو إعادة اتصال مصر التاريخي مع إفريقيا، استكمالا لمسيرة جده "محمد علي" في استكشاف منابع النيل، كذلك استغلاله لمعرفة الجغرافيين بالجنوب في حربه ضد تجارة الرقيق. ويذكر أن الخديو ساعد على زيادة التمثيل المصري في الخارج باشتراك مصر في المعارض والمؤتمرات الجغرافية في أوروبا. أما الخديو "توفيق" [1879 – 1892]، فبالرغم من حالة الطوارئ التي كانت تعم البلاد من جراء احتلال بريطانيا لمصر، إلا أن الجهود الجغرافية المصرية استمرت دون انقطاع، فنجح الجنرال "أستون" في رسم أكبر خريطة للأملاك المصرية بمقياس رسم 1 إلى 1000,000 وكان الغرض منها جمع نتائج الاستكشافات الجغرافية حتى عهد الخديو "توفيق".
إن كتاب "مصر والجغرافيا" جمع بين أيدينا كل المساهمات الجغرافية المصرية خلال القرن التاسع عشر، منذ عهد "محمد علي باشا" وحتى نهاية عهد الخديو "توفيق"، في جميع المجالات الجغرافية، في الجغرافيا الرياضية وتاريخ الاستكشافات، وذكر أهم الرواد، كذلك عرض لأهم الخرائط التي تم رسمها لمساعدة الجيش في مهماته، أو الجغرافي في رحلاته، وحصر لنا أهم المؤتمرات الجغرافية التي اشتركت فيها الحكومة المصرية، وأفرد لنا في نهاية الكتاب ثبتا مهما للملاحق التي تؤكد بالدليل القاطع كل ما تم ذكره في ثنايا الكتاب. وفي هذا السفر الرائع سيتغير مفهوم أغلبية القراء من الذين يعتقدون أنه لم يكن هناك علم جغرافي منظم في مصر وأن الأمر اقتصر على الاستكشافات الجغرافية في عهد محمد علي والخديو إسماعيل فقط، فعلم الجغرافيا في مصر كان يطبق تطبيقا حقيقيا، وبشكل استفاد منه علماء الجغرافيا في العالم كله، ويظهر ذلك من خلال الكم الكبير من الأبحاث الجغرافية التي قدمت باسم الحكومة المصرية في المؤتمرات الدولية بمعاونة الجمعية الجغرافية الخديوية في القرن التاسع عشر.
أخيرا لا يمكننا إهمال الحديث عن "أحمد زكي باشا" [1867 – 1934] مترجم الكتاب، والذي كان يلقب بشيخ العروبة، وهو أديب وباحث مصري، ولد بالإسكندرية وتخرج من مدرسة الإدارة والحقوق بالقاهرة، يعرف العديد من اللغات مثل الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، وله بعض المعرفة باللاتينية.
عين "أحمد زكي باشا" مترجما لمجلس النظار، فسكرتيرا ثانيا، ثم سكرتيرا أولا، وكان له اتصالات واسعة بعلماء المشرقيات على مستوى العالم، ولذلك انتدبته مصر في العديد من المؤتمرات في الخارج، ويعد "زكي" من رواد إحياء الكتب العربية، فطبعت الحكومة المصرية عدة مخطوطات، تولى هو تقديمها والتعليق عليها، كما أن له عدة مؤلفات، مثل "موسوعة العلوم العربية" و"أسرار الترجمة"، و"الدنيا في باريس"، إلا أن أروع مؤلفين له هما كتاب "السفر إلى المؤتمر"، وهو من أجمل كتب الرحلات التي دونها رحالة مصري إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، والكتاب فى مجمله مجموعة من الرسائل والتدوينات التي كتبها "أحمد زكي باشا" في رحلته إلى أوروبا لحضور مؤتمر باريس الاستشراقي في عام 1892. وأيضا "قاموس الجغرافية القديمة بالعربي والفرنساوي" ونشره في عام 1899، وهو المعجم الذي أورد فيه كثيرا من الأعلام الجغرافية التي لها ذكر في كل الحضارات القديمة.
لقد أتى على مصر حين من الدهر لم تكن شيئا مذكورا، حتى جاء على مصر في القرن التاسع عشر حكاما وضعوها في بؤرة الاهتمام الدولي من جديد، وأصبح ينظر إليها كمكان للتعلم والاستكشاف، وخاصة في المجالات الجغرافية، ولولا سوء تقدير حكامها للأمور، وسوء تصرفهم، لاستمر تقدمها إلى الأمام لتتغير الصورة إلى غير ما انتهت إليه مصر في نهاية ذلك القرن. وهكذا، أرجو أن يرى القارئ خلال اطلاعه على هذا الكتاب، صورة جديدة للتاريخ المصري في القرن التاسع عشر، ربما تكون غائبة عن الكثيرين، نظرا للتركيز الدائم على التاريخ السياسي لتلك الفترة الزمنية المهمة.