Responsive Ads Here

الجمعة، 11 يوليو 2014

حينما تؤرخ الكاميرا .. الملحمة التاريخية في السينما الصامتة


بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي .. 

تعد الأفلام الصامتة من الفصول الكبيرة والمهمة في عالم السينما، هذا الفصل الذي مر بمرحلتين، أولها مرحلة الأفلام التسجيلية القصيرة، والثانية مرحلة الأفلام الروائية الطويلة. ذلك الفن هو أقرب ما يكون إلى تعبير تاريخي لمجتمع لم يكن يرى نفسه بشكل بانورامي واسع كما رآه على شاشة السينما مع هذا الفن. هي التعبيرات والحركات وطريقة العرض المميزة. سينما لم يتفوه أبطالها بكلمة واحدة، وكانت حركاتهم في الأفلام هي تعبير صادق فهمه الناس، وعرفوا ما يدور حولهم.
وعلى الرغم من أهمية المرحلة الأولى لهذا الفن، إلا أن ما يهمنا في حديثنا تلك المرحلة التالية التي أنتجت القصة الروائية الطويلة، وكما كانت تهتم بعرض القضايا المعاصرة آنذاك، فقد اهتمت أيضا بالتاريخ وقضاياه.
ومن المعروف أن أفلام السينما غالبا ما تتعرض لأحداث تاريخية أو خيالية تستعين فيها بمفردات تاريخية، وأحيانا تتناول سيرة ذاتية لشخصية من التاريخ أو الأساطير، وتتسم تلك الأفلام في الأغلب بالإسراف في ارتداء الأزياء، والاهتمام بالموسيقى الملحمية المصاحبة للدراما التاريخية، خاصة في أفلام الحروب، التي نراها تعالج بعض الأحداث في العصور التاريخية المختلفة. وهناك من تلك الأفلام التي تقوم على معالجة فترة زمنية طويلة، وقد تعج بمظاهر الإسراف المذكورة، لأنها تسير بصورة بانورامية للأحداث، قد تعالج أكثر من مكان بأحداثه المختلفة، تستلزم ملابس مختلفة وموسيقات متنوعة، فضلا عن الديكورات الفخمة التي تختلف في الطرز من مكان لمكان، ومن عصر لآخر.
إن الأفلام الملحمية تعيد أحداث الماضي، مما يلزمها إنتاج ضخم مكلف، أموال باهظة تنفق على إعداد مواقع التصوير، وتصميم الأزياء وضبط التفاصيل الدقيقة للعمل، فضلا عن تعيين المدربين وتأجير حيوانات للركوب، ومراجعة سيناريو الأحداث تاريخيا ولغويا.
إنها مسئولية عظيمة على كاتبها وصانعها، فالخوف دائما يصاحب العمل من اتهامات تزييف التاريخ، ولذلك تتم دراسة دقيقة لتفاصيل حياة الشخصيات من كافة الجوانب، حياتهم الرومانسية والدرامية وطبيعة تدينهم، بالإضافة إلى قدراتهم السياسية والتركيبة النفسية لهم، وغيرها من الأمور التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار أثناء إعداد الفيلم.
وقد تشترك بعض عناصر إنتاج الفيلم مع أفلام أخرى، فتكون الفكرة مستوحاة من قصة أخرى، أو أن تكون متشابهة في اختيار مواقع الأحداث والسمات الشخصية لبطل العمل. وعلى سبيل المثال، قصة روبين هود، التي عولجت في فيلم "مغامرات روبين هود" الذي تم انتاجه سنة 1983، ويتشابه في طريقة إدارة إنتاجه، والفكرة الملحمية مع أفلام: فيلم الغرب الأمريكي "الرقص مع الذئاب" إنتاج سنة 1990، فيلم الخيال العلمي "حرب النجوم" إنتاج سنة 1977، الملحمة التاريخية "الإمبراطور الأخير" إنتاج سنة 1987، وفيلم الحرب "أطول يوم" إنتاج سنة 1962. وغيرها من الأفلام العظيمة التي عالجت ملحمة من نوع ما، أخذت الكثير من الجهد وعظمة الإنتاج، وتشابهت في كثير من عناصر الوحدات الإنتاجية المختلفة، كتنوع الملابس وفكرة المعالجة، وإتقان السيناريو وتنوع أماكن التصوير... إلخ.
وحتى وصلنا إلى تلك الأفلام ذات الإنتاج الضخم وجودة الصورة وعظمة الموسيقى والآداء التمثيلي والصوتي، فقد سبق كل ذلك مرحلة مهمة من السينما الصامتة التي نقلت المشاهد إلى عوالم أخرى كانت غريبة في عصره، خاصة تلك الأفلام التي تعالج دراما تاريخية تتعلق بالعصر القديم أو الوسيط والفيكتوري، أو تلك الفترة التي تشكلت فيها الدولة الأمريكية، على العكس من السير الذاتية، أو الحديث عن شخصيات خيالية.
ويعد أول فيلم تاريخي ملحمي صامت فى العالم، هو الفيلم الإيطالي "إلى أين أنت ذاهب؟" من إنتاج عام 1912، وهو أول فيلم سينمائي طويل يتعدي الساعتين ويحكي قصة تاريخية عن الإمبراطور الروماني نيرون. وفي عام 1914 أنتج فيلم تعدى الثلاثة ساعات باسم "كابريا"، وهو من الأفلام الروائية التاريخية الطويلة وتدور أحداثه في القرون الثلاثة قبل ميلاد المسيح.
وحدثت طفرة في الإنتاج السينمائي الصامت، حينما أنتج المخرج الأمريكي "ديفيد وارك جريفيث" في عام 1915، فيلمه التاريخي "ميلاد أمة"، وألقى الضوء فيه على تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية، وبداية إعمار القارة. وعالج الفيلم كل قضايا ومعارك الفترة التي واكبت اغتيال الرئيس لينكولن. وعلى الرغم من تشويه بعض الأحداث التاريخية لتلك الفترة، إلا أن "تومس ديكسون" صاحب القصة الأصلية للفيلم، قد أبدع في الحبكة الدرامية.
وفى عام 1916، أخرج "جريفيث" فيلمه الصامت "التعصب"، وقسمه إلى أربعة أجزاء، تدور أحداثها في القرن السادس قبل الميلاد، ثم عذاب المسيح، والقديس بارتملي في القرون الوسطى في باريس، ودراما حديثة هي الأم والقانون، تدور أحداثها خلال الإضرابات الدموية التي حدثت في أمريكا عام 1911، ولا يربط هذه الأجزاء سوى معنى واحد هو أن التعصب الاجتماعي والديني، يحارب الحب ومحبة الله، والنغمة الدالة في الفيلم صورة أم تهز مهد طفل. وقد تم تصوير الفيلم في مواقع بشمال إفريقيا وصقلية وجبال الألب الإيطالية.
ولم تكن وظيفة الأفلام الصامتة في تلك الفترة قاصرة على تقديم قصة درامية للاستمتاع والتعلم فقط، ولكن كان هناك نوع من الأفلام كان يستخدم للدعاية السياسية، وعلى سبيل المثال، أخرج "سيسيل دي ميل" فيلمه "جون والمرأة" في عام 1916، وهو من الأفلام التي تزامنت مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الأولى، ويعد بمثابة دعاية للحلفاء، أشاد به النقاد، وسجل شباك التذاكر في دور العرض التي تولته أعلى الإيرادات في حينه.
ولم يكن "دي ميل" يعالج فقط القصص الروائية التي تدور أحداثها فى وقت معاصر له، لكنه تطرق إلى معالجة قصص تاريخية عظيمة، حينما اختار مناحي محددة من القصص التوراتية وضع منها مادة فيلمية كاملة، وأشهر أعماله في هذا المجال فيلم "سيوف وصنادل"، وتدور أحداثه خلال العصر الروماني، في قالب ديني وتاريخي قوي. كذلك فيلم "الوصايا العشر" سنة 1923، وفيلم "ملك الملوك" في عام 1927.
ولم يكن "دي ميل" وحده مخرج الأفلام التاريخية الدينية الصامتة، فقد سبقه مخرج آخر اتسمت أفلامه بالشكل الديني الملحمي، ولكنه لم ينل الشهرة الواجبة، وهو المخرج "فريد نيبلو"، الذي أخرج الفيلم الصامت "فرسان سفر الرؤية الأربعة" في عام 1921، ثم فيلمه "حياة المسيح" في عام 1926، وهو أكبر أعماله التي عرفته على الجمهور.
وكانت لأفلام الأساطير العربية التاريخية الصامتة نصيب في إنتاج تلك الفترة، ولا يغيب عن ذهننا فيلم (لص بغداد) في عام 1924، للمخرج "راؤول وولش".
إنها لمحات من تاريخ السينما الصامتة لم يلق المؤرخ العربي الضوء عليها من قبل، ونحاول من خلالها أن نرصد لتلك الأفلام التاريخية، الدينية منها وكذلك التي قامت على رصد وقائع التاريخ وأساطيره، لعل القارئ يعرف من خلالها أن السينما التاريخية لم تكن وليدة السينما الحديثة وإنما لها من الجذور ما يستحق إلقاء الضوء عليه.