بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
انعقد المؤتمر العام الأول في جامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حاليا، بالجيزة وشارك فيه كثيرون من طلبة المعاهد والمدارس، وعم الاجتماع شعور بالوحدة وأعلن المؤتمر اعتبار المفاوضة عملاً من أعمال الخيانة يجب وقفه، وطالب بإلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 الخاصتين بالسودان وضرورة جلاء القوات البريطانية فورا.
بعد هذا خرجت من الجامعة أضخم مظاهرة عرفت منذ قيام الحرب العالمية الثانية فعبرت شارع الجامعة ثم ميدان الجيزة إلى كوبري عباس وما إن توسطته حتى حاصرها البوليس من الجانبين وفتح الكوبري عليها وبدأ الاعتداء على الطلبة فسقط البعض في النيل وقتل وجرح أكثر من مائتي فرد، وفي ذات اليوم حدثت مظاهرة في المنصورة أصيب فيها 7 شبان و3 جنود واعتقل أربعة كما اعتقل عدد من الشبان في أسوان وفي اليوم التالي عمت المظاهرات القاهرة والأقاليم وفي يوم 11 فبراير صادرت الحكومة الصحف التي كانت تنشر أخبار المظاهرات وحوادث الاشتباك مع البوليس ولم يمنع ذلك الهيئات المختلفة من الاحتجاج على القمع الحكومي للمظاهرات فأعلن اتحاد خريجي الجامعة الاحتجاج واتحاد الأزهر وكلية أصول الدين ولجان الوفد بالأقاليم ومصر الفتاة والفجر الجديد وهي جماعة يسارية ذات صلة قوية بالحركة العمالية في ذلك الوقت.
لقد كان يوما صعبا في تاريخ مصر، حينما أمرت قوات الاحتلال القائمين على إدارة كوبرى عباس (كوبرى الجامعة حاليا) بفتح صينية الكوبرى أمام جموع الطلبة المتظاهرين ثم إطلاق الرصاص لكى لا يستمروا فى التقدم.
ولم يخل هذا اليوم من البطولات كعادة المصريين أيام المحن، فإذا بطالب من المتظاهرين يلقى بنفسه فى النيل ويصل إلى العاملين بالصينية ويقنعهم بموجب وطنيتهم بضرورة مناصرة زملائهم من المتظاهرين والوقوف أمام المحتل، حتى تم له ذلك وأغلقت صينية الكوبرى بعد أن كادت تشهد مجزرة للطلبة.
إنه الطالب محمد بلال، من مواليد مطوبس بمحافظة كفر الشيخ عام 1914، والذى تلقى تعليمه الثانوى فى داخلية المدرسة العباسية الثانوية بمحرم بك بالإسكندرية. والتحق بكلية طب القصر العينى بالقاهرة. كان الدكتور محمد بلال شابا رياضيا يجيد السباحة والتجديف وكان خطيبا ثائرا لديه قدرة على جذب الشباب لمناهضة الإنجليز المحتل، وقد انضم مبكرا لحزب الوفد تحت زعامة اللجنة التنفيذية العليا للطلبة ولجان منظمة الشباب الوفدى المسماة (القمصان الزرقاء) ما بين عام 1935 و1940. وكان يعرف بـ "زعيم الشباب".
ولم يكن بلال حديث البطولة والإقدام، فله من البطولات ما حكاها أخيه للصحافة المصرية منذ سنوات حينما أهدت عائلة الدكتور بلال مقتنياته إلى مكتبة الإسكندرية، ومن تلك البطولات أنه فى عام 1935 عندما ألغى رئيس الوزراء إسماعيل باشا صدقى العمل بدستور 1923. والذى كان معمولا ًبه من قبل، وأقرهَّ الشعب المصرى رغم أنف الاحتلال والقصر الملكى؛ حدثت حالة من الغليان بين جموع الشعب، وأضرب طلاب الجامعة والمدارس الثانوية، وخرجت المظاهرات الغاضبة تهتف بحياة الوفد والنحاس وسقوط الاحتلال. فتصدت لهم فرق الأمن المسلحة بالرشاشات وأطلقت الرصاص عليهم وضربوهم بالهراوات (العصى الغلظة). وجاءت سيارات الإسعاف لتحمل الطلبة المصابين والجثث. هنا كانت بدايات العمل السياسى للدكتور محمد بلال، فقد كان على رأس المظاهرات بصفته طالب بكلية الطب. اتجه مسرعا إلى مستشفى القصر العينى لمتابعة المصابين، وعاد سريعا ليعلن إصابة الطالب عبد الحكيم الجراحى وأنه فى حالة خطيرة فتأججت ثورة الطلاب حزنًا على زميلهم، واجتمعت اللجنة التنفيذية العليا للطلبة وتضم مندوبين عن الكليات وقررت الاستمرار فى المظاهرات، خاصة بعد وفاة الطالب على طه عفيفى. وطالبوا بخروج جثمانه وزميله عبد الحكيم الجراحى. فى مظاهرة شعبية تليق بهما وتقدم الطالب محمد بلال بعريضة إلى وزير المعارف؛ قوبلت بالرفض. فزادت نيران الغضب بين الطلبة المتظاهرون وخرجوا فى صباح اليوم التالى إلى أقرب الثكنات الإنجليزية بهدف الوصول إلى قصر عابدين، فألقى القبض على الطالب إبراهيم شكرى (وزير الزراعة وزعيم حزب العمل فيما بعد) ضمن مئات الطلبة المقبوض عليهم.
استطاع محمد بلال، ونور الدين طراف (وزير الصحة فيما بعد) من سرقة جثمان الطالب على طه عفيفى، وانضم إليهما الطالب عبد اللطيف جوهر، وتم إخفاء الجثة بمدرج المحاضرات. فاهتزت وزارة الداخلية لحادث سرقة الجثة وتم تفتيش منزل الطالب محمد بلال بمعرفة حسن باشا رفعت (وكيل الداخلية) والدكتور على باشا إبراهيم. حيث وجدوا ملابس بها آثار دماء ولكنهم لم يجدوا الجثة، ولم يجد التفتيش شيئا. وأمام إلحاح الشرطة اشترط محمد بلال التصريح الرسمى بجنازة شعبية للشهيد عفيفى ولم يرشد عن مكان الجثة إلا بعد مكالمة من مصفى باشا النحاس يؤكد فيها لمحمد بلال بموافقة وزير الداخلية على طلبه وبالفعل وتم تشييع الجنازة كما أراد.
