
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
وبعد عصور إسلامية مزدهرة، دالت بلادنا إلى الحكم المدني وتوالت عليه المطامع التي أدت إلى احتلال أراضيه وفقدان بعضها، والذي عانت فيه الجماعات الإسلامية المختلفة من البطش والاضطهاد والإقصاء، إلا أنهم ما أن طفوا على السطح وبدأوا في ممارسة العمل السياسي في العلن، حتى اختلفت ممارساتهم عن دعواتهم القديمة، فبعد أن كانوا ينادون بتطبيق الشريعة ويكفرون الحكام وغيرهم، ممن ابتعدوا عن الحكم الرشيد من وجهة نظرهم، أصبحوا بعيدين كل البعد عن تطبيق العدل والكرامة التي هي من أسس الدين الحنيف، فتبنوا خطاب التكفير واستخدموه ضد معارضيهم من التيارات المدنية والثورية دون تمييز، ومارسوا نفس ما كانت النظم القديمة التي ثار عليها المجتمع تفعله. فلا شريعة طبقوا ولا عدل نشروه ولا كرامة أو حرية آمنوا أنها من حق المواطن في بلده.
إلى جانب الخطاب التكفيري، ادعى الإسلاميون ممارسة الديمقراطية، وأصبحوا يتحدثون بلسانها في محلها أو غير محلها.. وبعد أن كانت الديقراطية وسيلتهم للوصول إلى الحكم، أصبحوا يستخدمون المصطلح كلما هاجمتهم المعارضة، أو للدفاع عن أنفسهم أمام أي اتهام دولي لهم، وكلما أرادوا تمكين أنفسهم يستخدمونها أكثر وأكثر.
وتحت حكم الإسلاميين أصبح كل ما ثار الناس عليه من قبل مباحا، فلقد رأينا في مصر وتونس كيف أنهم يتصرفون وكأنهم سيملكون الأرض للأبد، فحملوا الناس ما لا يطيقون، واستغلوا مناصبهم في سبيل تكديس الثروة، ليجوع الشعب وتمتلئ خزائنهم، ورأينا كيف يتصرفون في المال العام ومنحه للغير دون رقابة أو مسائلة.. ومن يسأل أو يراقب يصبح خائن ومن فلول النظام السابق، الذي هم أنفسهم يتعاونون معه ويتصالحون مع رجال أعماله ويعفون عنهم دون رقيب..
أين الديمقراطية والحرية في ممارسات الإسلاميين على اختلاف طبيعتهم وتوجهاتهم.. فمن الظلم أن ننسب هذه الممارسات البغيضة إلى الإسلام. فالتمكين والإقصاء والعفو عن القتلة والتعاون مع أعداء الأمة، لا يبنى نظاما إسلاميا رشيدا كما يدعون.. ولابد أن نفرق جيدا بين النظام الإسلامي بمبادئه وأسسه، وما يحدث الآن في دول ثارت ضد الظلم، ليستولي عليها إسلاميون استغلوا ثقة الناس فيهم، فانتهجوا نهج لا يقل بغضا عما ثرنا عليه، فأصبح كل شيء باسم الإسلام، يبررون به الكذب والتدليس دون حياء، وللأسف يجدون من ذوي الرأي من يبرر جرائمهم ويضعها في إطار زائف يخدع به البسطاء، إنه ليس الإسلام والإسلام منهم براء..
ومن المعروف أن سلطة الحاكم في الإسلام ليست مطلقة، وأن طاعة الرعية مشروطة بالقيام بمسئولياته نحوهم، وتحقيقه لالتزاماته التي وعد بها رعيته قبل توليه للحكم. فهل التزم أي من الذين تولوا الحكم بعد الثورات باسم الاسلام بما وعدوا به مواطنيهم؟
قد يرى البعض أن الفترة قصيرة، بحيث لا يمكن لأي نظام جديد أن يحقق ما وعد به فورا، ولكن الرد المنطقي عليهم هو أنه يجب أن تظهر بعض بوادر النجاح وإن كانت قليلة، وعلى حسب المشهد العام المطروح على الساحة، فالأوضاع في تردى دائم، والسهم يهبط بسرعة تدل على عدم قدرة الحاكم على تولي مهام وظيفته بالقدر الذي يتناسب مع حجم دولة، بل يزداد استبدادا وجبروتا، وكأن النظام الحاكم أخذ تكليفا إلهيا لا يمكن معارضته أو انتقاده..
من المفترض أن هناك ضابطين أساسيين يضمنان عدم تحول نظام الحكم في الإسلام إلى نظام ديكتاتوري مستبد، أولهما: هذا الأسلوب الذي يتم بمقتضاه تنصيبه حاكما، وهو أسلوب الشورى والاختيار، فلا يختاره المواطن – مسلم أو غير مسلم - إلا لتحقيق شروط أساسية فيه تضمن ممارسته الصحيحة للحكم؛ أما ثانيهما: فهو رقابة الأمة عليه بعد توليه المسئولية، فإن لم يحسن القيام بها سلبت الأمة منه حق الطاعة والنصرة، فيفقد الحاكم مبرر استمراره في الحكم..
وهكذا، ومع الغضب المستمر من الحكم الديني الذي يرتدي عباءة المدنية في مصر وتونس، ومع مقابلة هذا الغضب بالتشويه والتشهير والاتهامات، ودعم كل ذلك بالتنكيل والاعتقال والقتل ورعاية البلطجة وشيطنة المعارضة والمثقفين، فإن هذا النظام كله قد فقد شرعيته، وبات عليه الرحيل، كي تأخذ الأمة فرصتها في الحياة الكريمة.
ولكن.. هل الحل يكمن في الثورة المسلحة للخلاص من هذا البلاء، أم أن هناك حل آخر.. فلقد وضعنا الإسلام أمام خيارين في مواجهة الحاكم الجائر، السيف أو الصبر، فماذا لو كان الصبر قد نفذ وأصبحت الصورة أكثر اعتاما كلما مر الوقت، وخاصة أن معدل الانهيار سريع.. فهل يرفع الناس السيف؟ وإذا كان كذلك فهل سيبقى المجتمع على تكاتفه، أم أن للأمر حسابات أخرى، خاصة وأن الله تعالى قال (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة - الأنفال:25).. وعلى ذلك فإن تقاتل المسلمون وسفكوا دماء بعضهم يحيق الدمار بالجميع.. ولذلك فإن وسطية الإسلام تجنبنا الفتنة، وتأمرنا بالعمل على حقن الدماء ما أمكن ذلك، والعمل على ترسيخ فكرة السلمية لتتحقق مصلحة الدولة وأهداف الثورة..
وعلى أية حال، لا يسعنا إلا الدعوة إلى سلمية أي اعتراض بتحقيق مبادئ الإسلام، الذي لا يؤمن بها أي نظام حاكم معاصر يدعى تقوى الله في مواطني الدولة، الذين ثاروا على ظلم ليقعوا في براثن الاستبداد باسم الدين.. ومبادئ الإسلام هنا تأمر الناس بعدم تنفيذ أوامر الحكومة المستبدة والخروج عليها بسلمية مثالية، تمشيا مع مبدأ وحدة الأمة الذي أكد عليه القرآن والسنة..
وإذا كانت طاعة ولي الأمر واجبة، فالحرية في الإسلام فطرة إلهية، ومن الطبيعي أن تكون الحرية مكفولة للجميع في النظام السياسي إسلامي كان أو غير إسلامي. وهذا ما لا يفهمه الإسلاميون المعاصرون، الذين يرون أي معارض في صورة المخرب الذي يتحدى الله. وهنا لابد أن نؤكد أن الحاكم بشر، قد يخضع في تصرفاته للضعف الإنساني، مهما بلغ من سمو الشخصية، وأن رأي المواطنين فيه عصمة له من الزلل، فإن لم يفهم هذا المبدأ مهما حمل من الخلفيات الدينية التي يعتقد أنها تدعمه، فعليه بالرحيل في سلام قبل أن تتعاظم أخطائه فتؤدي به إلى مصير من سبقه من الطغاة..
* الصورة من موقع يقظة الفكر...