
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
والمتحف الذي نحن بصدد الحديث عنه هو نتاج البحث عن أطر تتناسب مع العصر، لمعالجة ظاهرة الهجرة وتحسين أوضاع المغتربين، والتقارب بينهم وبين أهل البلاد الأصليين، بعيداً عن مسئوليات والتزامات المؤسسة الرسمية العربية تجاههم. وعلى سبيل المثال عمل عرب المهجر في الولايات المتحدة الأمريكية على خلق صياغات جديدة، وبحثوا عن أفضل النماذج التي تساعد على إيقاظ الأصالة وتخفيف آلام المهاجرين، وكان أفضل ما توصلوا إليه هو تأسيس متحف عربي في المهجر.
ومن المعروف أن المتاحف آلة الزمن التي نجح العلماء في تحقيقها، نشعر حين زيارتنا لمتحف بأننا انتقلنا زمنياً، نترك عند بابه كل همومنا لنزور عوالم وأزمنة حقيقية، فتلك آثارها الباقية والتي تعرفنا طبيعة القدماء ومعيشتهم. إنها ذاكرة الشعوب.. ولا نتخيل أبداً بلد بدون متحف، فهو سبيل التقدم والمعرفة. والمتاحف تنقسم تبعاً لنشاطها إلى أكثر من نوع: فمنها المتاحف الطبيعية أو المتاحف العلمية أو متاحف الحضارات الإنسانية أو متاحف التطبيقية، فضلاً عن المتاحف المفتوحة. ومنها ما ينحو تقسيمها إلى مرمى معين كالمتاحف الوطنية أو المتاحف الخاصة المحدودة بموضوع واحد أو المتاحف المحلية. وهناك أيضاً المتاحف الافتراضية على شبكات الإنترنت.
إن ذلك هو التقسيم الطبيعي للمتاحف باختلاف أنواعها، ولكن هل يمكن لمتحف أن يعبر بكامله عن ثقافة وطن داخل وطن آخر، أو طبيعة شعب عند شعب آخر وبشكل دائم. نعم إنه المتحف العربي الأمريكي Arab American National Museum.
رأى عرب المهجر في الولايات المتحدة الأمريكية أنهم يمكنهم تأسيس متحف يكون من واجبه أن يكون سبيلاً للتعريف بالعلوم والثقافة العربية، وإثبات أن المجتمع العربي تنتشر فيه روح الفن والجمال. وازدادت أهمية المشروع لديهم حينما تيقنوا من أنه سيلعب دوراً أيضاً في البحث العلمي، بعد أن جمع مفردات حضارية من مختلف البلدان العربية، تُمكن العلماء من إيجاد وتحديد العلاقات والثقافات العربية المختلفة فيما يخدم العلم وزيادة المعرفة الإنسانية.
ويقع المتحف العربي في مدينة ديربورن Dearborn بولاية ميتشجن الأمريكية، وهي المدينة التي تحتوي أكبر التجمعات العربية بلا منازع. إنه أول متحف في العالم يتم تكريسه لتاريخ الثقافة العربية في بلد أجنبي. وتكمن وظيفته الرئيسية في إيضاح مدى تأثير العرب الأمريكيين على الساحة الاقتصادية والسياسية والثقافية في الحياة الأمريكية. وهكذا، فإنه يهدف بالتالي إلى إيصال صوت العرب إلى الجماهير الأمريكية، في محاولة لتبديد المفاهيم الخاطئة عن العرب وبعض الأقليات الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية.
المتحف العربي الأمريكي يسلط الضوء على التجارب المشتركة من المهاجرين والجماعات العرقية، والذين يدافعون عن أمتنا بثقافتهم، عن طريق الحفاظ على الوثائق العربية، وإيضاح الثقافة العربية والتاريخ والعادات والتقاليد ومساهمات عرب أمريكا في الحياة العامة. وكذلك إنعاش الحركة الأدبية والثقافية العربية في المهجر الأمريكي باللغتين العربية والانكليزية من خلال إقامة الأمسيات الأدبية والندوات الثقافية الدورية. ليُعد بذلك مورداً هاماً لتعزيز معرفة وفهم الأمريكيين لطبيعة العربي، الذي يساعد بدوره على استقرار الحياة الأمريكية، وليس زعزعتها كما يحاول البعض أن يروج.
ولا يزال المتحف بعد خمسة أعوام من افتتاحه في عام 2005، هو المؤسسة الوحيدة التي كرست جهودها للدفاع عن الثقافة والتاريخ العربي في المهجر. وجُمعت لذلك آلاف الروايات الشفهية، وآلاف الوثائق التي تبرع بها العرب في أمريكا، والتي تتمثل في الصور الفوتوغرافية والمخطوطات والأعمال الفنية والأدبية العربية.
وبدفء عربي واضح، وترحيب مبالغ فيه يبدأ الزائر جولته المنظمة، والتي سرعان ما تغير الصورة النمطية عن العرب في أعين الزائرين، الذين يبلغ عددهم سنوياً أكثر من 56000 زائر نصفهم من الطلاب والمعلمين الأمريكيين، وهو عدد لا بأس به في مناخ لا يفهم العربي، ويعاديه أحياناً، فمعروف أن أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة الأمريكية يعتقدون حتى الآن أن العربي عبارة عن خيمة وإلى جوارها جمل، ويتبنى فكر الإرهاب والتطرف والعنصرية.
ولكن يفاجأ الزائر بأشياء تبدل تلك الصورة. إنه يستعرض بنفسه العروض التفاعلية التي تروي التاريخ العربي بشكل عام، وتاريخ العرب في أمريكا منذ عام 1500م إلى يومنا هذا بشكل خاص، كذلك يجد الزائر نفسه أمام التجارب المشتركة للمهاجرين، ويلمس بيديه نماذج من الإنتاج الثقافي العربي، المتمثلة في الصناعات والأعمال الأدبية من كتب وتراث موسيقي راقي وعدد ضخم من الصور. ومن الإبداع المعاصر في كافة النواحي الثقافية، ويأتي ذلك خلال مجموعة من المعارض الفنية والثقافية، والتي يتخللها الحفلات الموسيقية والعروض السينمائية والندوات التي تحاول إبراز الثقافة العربية الأمريكية المشتركة.
وأحرز المتحف تقدماً كبيراً في إيصال رسالته إلى الجمهور الأمريكي، فلم يكتف باستقبال الزائرين فحسب، وإنما حاول جاهداً إيصال رسالته لكل فرد عن طريق مواقع الانترنت، والسفر إلى المعارض الأمريكية، وطرح برامج تشرح أهداف المتحف لتركيبها على أجهزة الهواتف النقالة، وهكذا يعد قاعدة انطلاق تصل بها رسالة العرب الحضارية إلى الشعب الأمريكي.
ولقد ازداد عدد الزائرين من 50,000 في عام 2007 إلى 52,000 في عام 2008 و56,000 في عام 2009 ، ويحضر أكثر من 325,000 شخص أمريكي لحضور الحفلات العربية التي ينظمها المتحف نصفهم من الطلاب والمعلمين، وأكثر من 25% من الزائرين يأتون من خارج "متشجين".
وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي يشهدها العالم منذ سنوات، إلا أن ميزانية المتحف تتوازن كل عام، فخلال العامين الماضيين شهدت الميزانية زيادة بنسبة 300% من خلال مبيعات موقع المتحف على الانترنت فقط، بالإضافة إلى موارد المتحف من حفلات الاستقبال والمنظمات الخيرية وتبرعات الشركات. وعلى الرغم من ازدياد الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أن قادة هذا المتحف متفائلون في مواجهة المستقبل بثقة.
وهكذا تكيف المتحف مع الأزمة، وتجنب تخفيض الميزانية التي وصلت إلى 2,2 مليون دولار سنوياً. ولم يأت ذلك من فراغ، وإنما من خلال الإدارة المتقنة والجودة العالية في تقديم الخدمات، ونتيجة للنظام الاقتصادي المتميز للمتحف، بالإضافة إلى زيادة أعداد المانحين ماديا أو بالمعروضات، فأصبح المتحف وفي فترة قصير في المركز الرابع بين المنظمات الخمسة وسبعين المنافسة.
ولقد زادت مجموعات المتحف من 3700 قطعة في عام 2007 إلى أكثر من 4800 قطعة في نهاية عام 2009، وهي عبارة عن صور ووثائق وتحف عربية، منها على سبيل المثال مجموعة صور لملتون روجرفين Milton Rogovin ، كذلك 19 وثيقة أصلية، وعود صغير للموسيقار الشهير سيمون شاهين Simon Shaheen ، وعدد كبير من المشغولات اليدوية لفنانين عرب يحملون الجنسية الأمريكية، وتتزين القاعات بلوحات (أهلا وسهلا ومرحبا).
كما أطلق المتحف موقعه الاليكتروني http://www.arabamericanmuseum.org ليتمكن الزائر من استعراض الصور والإعمال الفنية، وتقديم المعلومات عن الدور العربي الثقافي في أمريكا.
وفي عام 2008، أقامت إدارة المتحف معرضها عن المجتمع اليمني على موقع المتحف الاليكتروني، وهو يعد من الأمور الفريدة أن يقام معرض تفاعلي إليكتروني يؤمه الزائرون ويعلقون على محتوياته ويشترون نماذج من المعروضات أيضاً. وفي عام 2009 أطلقت العديد من مقاطع الفيديو على موقع (اليوتيوب)، والمئات من الصور على موقع (فليكر). وهكذا يسمح المتحف للجميع بزيارته، لأولئك الذين لا يستطيعون زيارته مادياً، ويعطيهم فرصة للتواصل مع المتحف.
إن سمعة المتحف تزداد تحسناً يوماً بعد يوم، وأصبح المتحف محوراً للحديث الدائم عن تشجيع الحوار حول قضايا الهجرة. ولأن المتحف يتناول قضايا العرب في المهجر بطريقة موضوعية وراقية في الحوار، فقد استطاع خلال عام 2009 أن يتلقى الدعم من كافة المتاحف الأمريكية، وفي محاولة لزيادة التواصل بين المتحف العربي الأمريكي وجمهوره، فقد قام بإصدار أربعة كتيبات إعلامية، هي (الأمريكيين العرب) و(العالم العربي) و(الديانات التوحيدية) و(الإسلام والمسلمين الأمريكيين). كذلك تقديم منح تعليمية للطلاب، وورش عمل لمدة ثلاثة أيام لكل ورشة خلال الصيف.
وأنشأ المتحف أكاديمية حرة للفنون، تتنوع برامجها ما بين التصوير الفوتوغرافي والمشغولات اليدوية، وأكثر طلابها من أبناء الشعب الأمريكي، وشجع المتحف على تبادل الصور التي التقطها الطلاب على موقع (فليكر) على الإنترنت.
ولقد حظيت المرأة العربية باهتمام حلقات نقاش عديدة سواء من خلال موقع الإنترنت أو الندوات وحلقات النقاش التي يقيمها المتحف، وفيها عرضت النساء العربيات تجاربهن في المجتمع الأمريكي، والصعوبات التي واجهتهن، وكيف تغلبن عليها. كذلك أنشأ المتحف حلقات دراسية لتعلم اللغة العربية في الصيف من كل عام.
كما يقدم المتحف العربي الأمريكي خدماته للباحثين، فيتلقى عشرات الطلبات من الطلاب الأمريكيين لمساعدتهم في أبحاث تتعلق بالثقافة والتاريخ العربي. ولذلك أنشأ المتحف مكتبة ضخمة يستكشف الزائر من خلالها مختلف الثقافات العربية، وتفتح أبوابها للباحثين والقراء العاديين على السواء يومياً. ووصلت حتى الآن مقتنيات المكتبة إلى أكثر من 4000 كتاب ودورية وقرص مدمج، بالإضافة إلى شرائط الفيديو الرقمية. وتعد مقتنيات المكتبة واحدة من سبع مكتبات متميزة في أمريكا لتنوع وجودة محتوياتها. ويسعى المتحف دائما إلى تزويدها بالكتب والروايات الحديثة العربية والأمريكية، والأبحاث التي تعالج العلاقات العربية الأمريكية.ويقوم المتحف بإقامة حلقات نقاش حول الأعمال الأدبية العربية، وعلى سبيل المثال في العام 2009 نوقشت رواية اللص والكلاب (للكاتب نجيب محفوظ – 1961)، وتم توزيع أكثر من 700 نسخة من الكتاب باللغتين العربية والانجليزية مجاناً على جمهور الحاضرين. بالإضافة إلى عروض الأفلام العربية، والموائد المستديرة لمناقشة الأعمال الثقافية العربية والعربية الأمريكية في كافة المجالات، وإقامة لقاءات ثقافية تشبه لقاءات المصريين على المقاهي التقليدية. كما يقوم المتحف بتقديم جوائز للأعمال الأدبية التي يقوم بها العرب الأمريكيين، لتشجيعهم على التواصل الدائم مع المجتمع الذي يعيشون فيه.
ولأن الضيافة تحتل مكانة مقدسة لدى العرب، فإن المتحف يحتضن ضيوفه بالترحاب والاستقبال المميز والابتسامة الرقيقة، ويقدم خدمات حفلات الزفاف العربية وحفلات أعياد الميلاد العربية.
وهكذا فإن المتحف العربي الأمريكي يعتبر صورة مشرفة للثقافة العربية في المهجر، خاصة وأن العالم العربي يواجه تحديات مستمرة يومية تهدف إلى تشويه صورته، وبذلك يكون المتحف العربي الأمريكي هو حالة شرعية من الدفاع عن النفس، يجب إلقاء الضوء عليها وتعزيزها بشكل ملائم، ودفع الجميع إلى تقليده ومحاولة رسم صورة جديدة للعربي في أعين الغرب.
* المقال نشر في مجلة تراث .. عدد 142 يوليو 2011