Responsive Ads Here

الخميس، 9 يونيو 2011

الورداني واغتيال بطرس غالي الجد




بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي .. 

في خضم الحركة الوطنية المصرية مع بداية القرن العشرين، طرحت على "محمد فريد" فكرة التعاون مع الأحرار العثمانيين، حينما تنجح ثورة تركيا الفتاة، ولم يكتف "فريد" بصلاته الشخصية التى ربطته مع بعض رجال تركيا الفتاة البارزين، ولكنه وسع نشاطاته الدعائية للمسألة المصرية عن طريق الأجانب المستنيرين بأوربا وتركيا، وكان من بين هؤلاء "وليم مالونى" الذى بذل جهوده لنشر المسألة المصرية فى تركيا ليفوت على إنجلترا فكرة التأييد الأدبى للثورة التركية مقابل تأييد وجودها فى مصر.
وكان "محمد فريد" يحاول النهوض بالجهاز السرى للحزب الوطني (القديم) على قدر المستطاع فأوكل لتلك المهمة أنشط من أنجبهم الحزب الوطنى، وهكذا تولى "إبراهيم ناصف الوردانى" مهمة تنظيم الجهاز السرى للحزب، ويمكننا أن نؤكد أن ذلك التكليف جاء بالتنسيق مع جمعية الاتحاد والترقى حينما سافر "الوردانى" للأستانة فى يونيو 1909، فقد وقف "فريد" على عوامل نجاح الجمعية وشاء الاستفادة من نجاح تجربتهم بتطبيق ما يتناسب مع كفاح مصر، وما يوحى بذلك أن الوردانى حينما عاد إلى مصر عمل جاهدا على الدخول فى الماسونية التي كانت أساس الحركة الوطنية في تركيا، فأخبر بذلك "على مراد" رئيس جمعية التضامن كى يدبر عملية التحاقه بها. وتم بالفعل تكريس الوردانى فى محفل (الهلال) الماسونى فى 9 فبراير 1910 ورافقه "على مراد" فى تكريسه.
ونعلم أن التقاليد الماسونية تمنع أى شخص من غير الماسون الحضور أو حتى معرفة أسرار الماسونية وكيفية الانضمام لها، والتى تعتبر لغزا محيرا غير بعض الاستنتاجات، ولكن حضور "على مراد" رئيس جمعية التضامن الأخوى الوطنية لهو دليل واضح على ماسونيته، ومعرفة "الوردانى" لهذا نظرا لطلبه من مراد بالذات دون غيره السعى لانضمامه إلى الماسونية، مما يعطى الدليل على وجود الماسون بين صفوف الحزب الوطنى القديم حتى فى أدق وظائفه، أى أن الماسونية فى ذلك الوقت لم تكن فى مرحلة تشكل خطرا على الحركة الوطنية المصرية ولو ظاهريا، بل كانت تدعمها والدلائل على ذلك كثيرة. ومن الواضح أن دخول "محمد فريد" فى الماسونية، قد شجع الكثيرين من أعضاء الحزب الوطنى للانضمام إليها والمشاركة فى أنشطتها.
وهكذا فأهمية دخول "إبراهيم الوردانى" و"محمد فريد" إلى الماسونية تعود إلى أن الماسونية لعبت دورا بارزا فى "الجمعية العثمانية للحرية" التى عرفت بعد ذلك بجمعية الاتحاد والترقى وسار العمل فيها بسرعة تثير التقدير بسبب الاتصال مع الماسونية فى سلانيك، التى كانت مركزا للجمعية فاستفادت بذلك بما هيأته الماسونية من فرصة للاجتماع والتنظيم للحد الذى وصل معه التأثير فى حركة تركيا الفتاة ذاتها. كما وقفت قيادة الحزب الوطنى على العوامل المساعدة لنجاح هؤلاء الماسون الأتراك فتبينوا أن جمعية الاتحاد والترقى تملك قوة الجيش كله ورصيد مالى يصل إلى 600 ألف جنيه تركى، ولذلك فلا غرابة أن لجأت "جمعية التضامن الأخوى" فى مصر للاستعانة بالماسونية، بل أنها وضعت فى اعتبارها دخول بعض الأعضاء إلى الطرق الصوفية، تقليدا لما حدث فى تركيا من انضمام البعض من أعضاء الاتحاد والترقى لطرق الدراويش. ولا يغيب عن البال أن "محمد فريد" كان رئيسا لإحدى المحافل الماسونية فى مصر، بل أنه كان على علاقة قوية بالمحافل الماسونية التركية، حيث اشتهر بنفوذه فى تلك المحافل التى هدف إلى استفادة حزبه من وراءها.
مذكرة قدمها بطرس غالى للبرلمان بشأن مشروع مد امتياز القناة
ولكن كان هناك هدف آخر يكمن خلف سعي الورداني للانضمام إلى الماسونية، ألا وهو رغبته في اغتيال "بطرس باشا غالي". لقد ألح المعتمد البريطانى ومستشاره المالى فى ضرورة قبول مشروع مد امتياز قناة السويس الذي كان ضد مصلحة مصر الاقتصادية تماما، وقد استحسنه "بطرس غالى" بطريقة مثيرة للشك مطالبا الوزراء بالفصل فيه على وجه السرعة نظرا لأن مجلس إدارة القناة يتعجل الأمر، ونشرت جريدة اللواء الموضوع واتخذت موقفا جديا تجاه منعه، فتحرك "فريد" وصحافة حزبه لإحباطه، واهتم كل الشعب المصرى بمسألة مد الامتياز، كما اتحدت الأحزاب المختلفة على العمل فيها بصورة واحدة. وحينما رأت الحكومة الغليان الذى نشأ بين عامة الشعب بعد إعلان "فريد" للمشروع على الملأ، اضطرت النزول على رغبة الأمة وقررت عرض المشروع على الجمعية العمومية فناشدت الأحزاب الجمعية العمومية بإنصاف الأمة.
وعلى أية حال، ومع طرح المشروع جاءت نهاية وزارة "غالى"، بل والقضاء على حياته بعد أن اتفق جورست والخديو معه على مدافعة الوزراء جميعا عن المشروع، بينما كانت المعارضة فى الجمعية ثابتة على موقفها النابع من حق الأمة وحده، والغريب في الأمر وقوف "سعد زغلول" موقفه المؤيد للمشروع أيضا متفقا مع وجهة نظر بطرس غالي، فاندفعت الجرائد الوطنية تصب عليه طعنها.
دبرت جمعية التضامن الأخوى محاولات كثيرة لاغتيال "غالي" غير أنها فشلت جميعها. وبالرغم من فشل "الوردانى" المكلف باغتياله أكثر من مرة فى الإجهاز عليه إلا أنه وعن طريق مراقبته جيدا داخل المحفل الماسوني والتقرب إليه بحكم الأخوة الماسونية، فقد نجح أخيرا فى ذلك فأفرغ فيه خزينة مسدسه كاملة، ولم يشأ أن يصيب أحد خلافه فألقى المسدس على الأرض وسلم نفسه رغم أن هروبه كان سهلا وسط التوتر الذى حدث بحماية سلاحه. ومما لا شك فيه أن الاغتيال كان بعيدا عن فكرة التعصب الدينى، بل كان سياسيا بالدرجة الأولى حسب اعتراف المعتمد البريطانى.
وهكذا بلغت الحركة الوطنية قمتها باغتيال "بطرس غالى" الذى يعتبر شبيها بالخائن "كوزلنج" Qusiling فيما بعد، يعمل لصالح البريطانيين بل وبالاتفاق معهم فى كل الأمور. وبالطبع لم تكن الصحف الماسونية لتجرؤ على تحدى إرادة الوطنيين آنذاك نظرا لالتصاق الماسونية بالحركة الوطنية ومحاولتها خطب ود زعماء الحركة الوطنية، خاصة وأن "فريد" أحد رؤساء محافلها، أيضا حتى لا تتعرض لانتقام الوطنيين منها.
والطريف أنه إذا كان بطرس غالي (الحفيد) قد تخلى عن جنسيته المصرية هروبا من حكم المحكمة الذي صدر ضده بالحبس مدة ثلاثين عاماً، فإننا بذلك نتأكد تماما أن من يبيع وطنه للمحتل ويتسبب في مقتل مواطنيه بمحاكمة ظالمة كمحاكمة دنشواي وطريقته الرخيصة فى إدارة أزمة اقتصادية ووطنية مثل مشكلة مد امتياز قناة السويس، لا نستغرب أبدا أن يكون حفيده لا يتمتع بأي روح انتماء أو وطنية، فيستبيح أموال وطنه ومصيره ويتخلى عنه.. الخيانة هي الخيانة.. وهذا الشبل من ذاك الأسد.
  
المراجع:

- Kayali , H. , Arabs and Young Turks: Ottomanism Arabism and Islamism in the Ottoman Empire 1908 – 1918 , 2nd. , Univ. of California Press , Berkeley 1997.
- Akşin , S. , 100 Soruda Jön Türkler Ve İttihat Ve Terakki , Istanbul 1980 , P. 53.

- عصام ضياء الدين، الحزب الوطنى والنضال السرى، ص 144 146، 160، 161، 181.
- عبد الرحمن الرافعى، محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية، ط1، مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى، القاهرة 1941، ص 143، 174.
- مصطفى الحفناوى، قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة، ج4، مطبعة جريدة قناة السويس، القاهرة 1954، ص571 – 584.
- محمد طلعت حرب، قناة السويس، مطبعة الجريدة، القاهرة 1910، ص 118، 119.
- السيد حسين جلال، مؤامرة مد امتياز شركة قناة السويس 1908– 1910، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1990.
- عبد الحكيم العفيفى، تاريخ الاغتيالات السياسية فى مصر، ط1، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1992، ص 88، 89. 
- ج. إ. كيرك، موجز تاريخ الشرق الأوسط، ترجمة: عمر الإسكندرى، الألف كتاب رقم 114، مركز كتب الشرق الأوسط، القاهرة 1957، ص 182.

- وثائق قضية اغتيال بطرس غالى:
ملف رقم 16: بشأن استجواب على مراد.
ملف رقم 2: بشأن استجواب الوردانى.
ملف رقم 35: خطاب من الوردانى إلى على مراد.