
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
الأديب .. قلب الحقيقة النابض الذي يجسد كل المعاني الإنسانية النبيلة، وتستولي عليه عاطفته فتحرك نفسه وتهتز لها براعته، فيدون على صفحة القرطاس تلك الحركات النفسية، وتصورها على قدر شدتها أو خفتها، فإذا عرضت على الناس حركت فيهم نفس الشعور وأحيت منهم نفس العاطفة، وهو بذلك يحمل مسئولية عظيمة تجاه مجتمعه، فيكون قلمه دائما موجها لخدمته ناقدا مقوما ومدافعا غيورا قاسيا وحنونا.
الأديب .. قلب الحقيقة النابض الذي يجسد كل المعاني الإنسانية النبيلة، وتستولي عليه عاطفته فتحرك نفسه وتهتز لها براعته، فيدون على صفحة القرطاس تلك الحركات النفسية، وتصورها على قدر شدتها أو خفتها، فإذا عرضت على الناس حركت فيهم نفس الشعور وأحيت منهم نفس العاطفة، وهو بذلك يحمل مسئولية عظيمة تجاه مجتمعه، فيكون قلمه دائما موجها لخدمته ناقدا مقوما ومدافعا غيورا قاسيا وحنونا.
في هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه نقدا وتحليلا، والذي صدر بعنوان "واحد مصري: خطاب مفتوح لرئيس مصر" الصادر عن دار صفصافة عام 2015 بالقاهرة، يرى كاتبه "وليد علاء الدين" أن الانشغال بالشأن المصري ليس مقتصرا على الباحثين السياسيين، وأنا أتفق معه في هذا الرأي كثيرا، فعلى حد تعبيره الدقيق "ليس كل حديث في شأن مصر هو حديث سياسة، وليست السياسة شأنا قاصرا على فئة بعينها".
وهكذا يحمل وليد نفسه عبء الحديث في السياسة، ويعلن استعداده لتحمل مخاطر ذلك. فالأديب إذا ما أراد تأدية رسالته على الوجه الأكمل اصطدم عادة بعقبتين كلتاهما مُرة، السياسة والتقاليد. وقد أصبحت المهمة صعبة بعد أن أفسدت السياسة مزاجنا الأدبي، فإلى جانب الارتقاء بالذوق العام بنشر الإبداع الأدبي، يقوم بتقويم الحاكم إذا أخطأ، وتوجيه الناس إلى صحيح الأمور. ولكن ورغم سمو الهدف إلا أن السياسة هي شر على الأديب، لأنها تستغرق من جهده وميوله وعواطفه مقداراً عظيماً، كان ينبغي أن يخلص لإبداعه، لكنها مسئولية الأديب رغم كل شيء.
أما التقاليد، فهي الحجة التي يحملها طيور الظلام كآداة لحروبهم الشرسة مع الأديب، الذي يسير عكس التيار في مواجهتهم، والتقاليد غريبة حقا، فهي أداة طيعة لمحاربة الأدب والأدباء، تتستر وراء الدين حيناً ووراء السياسة حيناً آخر.
وقد تم تقسيم "واحد مصري" إلى ثلاثة أقسام: أولها، نشر فيه مجموعة من مقالات المؤلف في صحيفة "المصري اليوم"، وقد حدد في مقدمته فترتها الزمنية منذ مارس 2014 وحتى مارس 2015. أما الثاني، فقد خصصه لعرض تدوينات مختارة نشرها على صفحته في موقع "فيسبوك" منذ اندلاع ثورة 25 يناير وحتى مارس 2014. وأخيرا، حديث مهم عن صدمة الخروج من زيف الصورة الذهنية لدى المصريين. والملاحظة اللافتة للنظر في المقالات المنشورة بالكتاب أنها ألقت الضوء على أحداث ومواقف بعينها، رأى وليد أنها مهمة دون غيرها. وربما شعر بأنه يجب تجاهل بعض الأحداث وعدم التعليق عليها قبل أن تتضخم وتساهم في تزييف الوعي العام وتتضخم بلا داعي.
وربما أختلف مع المؤلف قليلا في اختياره لعنوان الكتاب، فخطابه ليس موجها فقط إلى رئيس مصر، بل هو لكل المصريين، الرجل العادي ورجل الدين والسياسة وحتى المؤسسات. هو خطاب تقويمي يهدف إلى وضع أيدينا على أخطائنا بعد الثورة وربما قبلها، فهي تراكمات قرون من العثرات أدت إلى ما نحن فيه. خطاب قاسي إلى أبعد الحدود، يجب أخذه باهتمام وجدية.
وقد أخذت قضية الانتماء حيز لا بأس به من اهتمامات وليد، فجاء مقاله "آية .. والمؤتمر الاقتصادي" ليؤكد على أن الاختلاف لا يفسد للإنتماء قضية. ولأن الأدباء في هذا الزمن هم الذين يعرضون أنفسهم للأخطار، فيتلقون عن بقية الجيش السهام، كان تعرض وليد لقضية التجديد في الخطاب الديني مكثفا خلال أكثر من مقال، باختلاف طريقة التناول، فيناقش فكرة الدعوة إلى عودة الخلافة الإسلامية، وما يحمله أصحابها من أفكار وصور ذهنية زائفة في مقال "المتباكون على الخلافة العثمانية"، ويتعامل مع الأفكار المتشددة ودعاوى الجهاد ودور المؤسسات الدينية في مواجهة أفكار وممارسات الجماعات المتطرفة في مقاله عن "الأزهر وجرائم الدواعش" ثم "دوزنة صوت الأزهر" و"لا محيص.. على الأزهر أن يتفنن"، و"كل من له نبي يصلي عليه"، ثم مقاله المهم والأخطر "كيف يتحول الدين إلى آداة قتل".
ويمكنني الوقوف قليلا عند فكرة تجديد الخطاب الديني وضروراته، لأنها من أكثر المحاور المهمة التي ألقى وليد الضوء عليها بإلحاح في كتابه، وكأنه يجبرنا على التفكر فيها، وهي القضية التي تتمحور حولها كافة القضايا الأخرى، كقضية الانتماء والخطاب السياسي والإعلامي وغيرها. ففي الدين فكرة واضحة عن التجديد شملت كافة مناحي الحياة، وتبين ناموسا كونيا، وتنبه إلى سنة اجتماعية مطردة لا تتبدل، إذ ورد في كتاب الملاحم لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها). وإذا كان الدين وهو وحي إلهي يقرر أن نظام الحياة يحتاج إلى التجدد ويهيئ الله له من ينفي عنه مظاهر الجمود؛ فمرافق الحياة وظواهر المعيشة التي لا ثبات لها ولا استقرار، أشد حاجة إلى التجدد والتغير. ويلخص وليد أفكاره حول من يستخدمون الدين في اللعبة السياسية في تدوينة مهمة مركزة من تدويناته على صفحته في "فيسبوك" والمنشورة في الكتاب، قال فيها: "الدين الذي يأمر بقتل معارضيه دين يحاول أن يخفي ضعفه.. هل الإسلام ضعيف!".
كذلك، يتضح نقده للأفكار المتداولة عن التزيد في الحديث عن المؤامرة التي تحاك لبلادنا، والتي وإن كان ظاهرها صحيح، ولكنها أخذت تتضخم حتى طغت على كل مناحي حياتنا، فأصبحت حجة للهروب من المسئولية، ومن مواجهة أخطائنا، وأسلوبا مثاليا للتعاطي مع الأزمات المصيرية. كما يوجه وليد بين سطور كتابه رسالة مهمة إلى المصريين يحثهم فيها إلى عدم اللجوء إلى حيلة (التقدير المثالي) لكل ما هو مصري، والمبالغة في التباهي به، لأن ذلك يعد مؤشرا على تصاعد شعورنا الطاغي بتهديد الذات التي تفقد يوميا الكثير من مميزاتها تحت وطأة الفقر والعشوائية والفساد، وتتجلى تلك المعاني بوضوح في مقاله "ياسمينا.. قضية وطنية". وفي محاولة لتغيير الصور الذهنية والأفكار المزيفة التي تم حفظها في العقل المصري، كتب وليد مجموعة من المقالات كان أهمها "هل يستحق الشعب المصري الثقة"، بالإضافة إلى دراسته التي أنهى بها عمله بعنوان "صدمة الخروج من زيف الصورة الذهنية"، وهي قراءة مهمة لتحولات الشخصية المصرية. كذلك جاء نقده اللاذع لرفقاء مهنته في مقالاته "مانشيت للقضاء على الإرهاب"، و"تساؤلات حول غرفة صناعة الصحف الخاصة"، و"آليات الصحافة المصرية في خدمة مصالحها"، وفيها يضع يده على جرح عميق نعاني منه بعد ثورة 25 يناير، حين خدمت وسائل الإعلام المختلفة أهداف صاحب رأس المال وضربوا عرض الحائط بمصلحة الوطن، فتعاطيها مع القضايا الوطنية أمر بعيد تماما عن الضوابط المهنية الصارمة، ومن أدق التعبيرات التي لخص وليد بها كل أفكاره حول الإعلام المصري "إذا لم يحقق الخبر مصلحتك فلتكن المصلحة في الافتراء عليه".
وأخيرا.. قام "واحد مصري" بإضاءة الطريق أمام حركة أدبية ثورية تفجرت بعد ثورة 25 يناير، والتي حاولت تمكين طابعها الخاص، والانحراف في عنف عما للجيل المنصرم من مظاهر الطموح إلى الجمال. ولقد تحدى وليد كافة المحاذير ومضى في نشر رسالته مؤمنا بانتصاره على طيور الظلام التي حلقت في سماء السياسة والدين، تدفعه فكرة إلهية ورسالة سامية تجاه مجتمعه خطها بقلمه، غير عابئ بتلك الأصوات التي تدعو الأدباء والفنانين بالتقوقع داخل مهنتهم الأساسية وترك السياسة للساسة وترك الدين لأهله. وجعلني إبداعه في طرحه لقضايا مجتمعه مؤمن تماما بأن جهده سيكتب عمله في ثبت الخالدين.