Responsive Ads Here

الاثنين، 25 ديسمبر 2017

قطعة أثرية مقابل رصاصة .. حول مصير آثار سوريا


بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي .. 

الحضارة السورية من القدم بحيث تمتلك مقومات العراقة والأصالة التي تتميز بها معظم الدول السياحية في العالم، مثل مصر والأردن وإسبانيا والمكسيك والهند وغيرها. وفي سوريا نجد آثار تل الشيخ حمد التي تقع على بعد 68 كيلومتراً شمال شرقي دير الزور، وكذلك آثار حوران القديمة، وآثار العصر الأموي، ومقابر عازار في طرطوس، فضلا عن القصور والمساجد والأديرة الأثرية، آثار من كافة العصور التي مرت عليها، السومرية القديمة، واليونانية والإسلامية والحديثة، عثمانية ومعاصرة. قطع أثرية ومشغولات وفسيفساء وغيرها، مما جعل الأمم المتحدة تصنف سوريا كواحدة من أكبر مخازن الآثار في العالم.
وفي الوقت الذي ازدادت فيه المخاوف العالمية من تفاقم الأزمة السياسية السورية والتي نتج عنها مواجهة مسلحة دخلت في عامها السابع بين أطراف النزاع المختلفة، والمتعددة الاتجاهات الفكرية والسياسية، لاحت في الأفق مخاوف حول ضياع مفردات الحضارة السورية القديمة، التي من الطبيعي أن تهدد نتيجة اتساع رقعة المواجهات المسلحة. فكل تلك الآثار الآن تواجه تهديدا سواء بالهدم تحت ضربات المدافع والطائرات، أو بالتهريب والتبديد مقابل المال أو السلاح أو الطعام، أو الطمع في الثراء. وبذلك فإن مستقبل سوريا يتم تدميره بشكل ممنهج ومع سبق الإصرار والترصد على الصعيدين، البشر والحجر.
وفي غفلة من الجميع، انتبهت صحف العالم، فذكرت الفاينانشل تايمز أن جيش سوريا الحر يرى آثار بلاده مصدرا أساسيا للحصول على الأسلحة والذخيرة، وتتهمه صراحة بتبنى عمليات تهريب الآثار المتكررة، سواء عن طريق تركيا أو غيرها من المنافذ المسيطر عليها. وأن مصادره الأساسية معرة النعمان بإدلب، والحسكة التي تعد مصدرا متميزا للفسيفساء السومرية.
وذكرت صحيفة واشنطن بوست أن الآثار السورية تعد من مصادر تمويل المعارضة غير المباشرة، ومصادر أخرى ذكرت أن النظام السوري أيضا يحاول إنقاذ نفسه ببيع الآثار لتعويض الخسارة المادية التي يتعرض لها يوميا، ولشراء حاجياته من الأسلحة والذخيرة، مما يضعنا أمام إشكالية عميقة تتعلق بعدم إيمان النظام الحاكم والمعارضين له بضرورة الاحتفاظ بمفردات الدولة الحضارية بما يضمن هوية الدولة في مقابل السلطة.


ومن المعروف - حتى الآن - أن أكثرية المتاحف الوطنية السورية لا تزال تحت أيدي النظام السوري، وأذكر تصريح مهم لمدير عام الآثار والمتاحف السورية "مأمون عبد الكريم" قال فيه أن الآثار السورية المهمة تم نقلها إلى أماكن آمنة، وفي الوقت نفسه يتم توجيه اتهامات إلى المعارضة المسلحة بأنها تعمل على تهريب الآثار إلى الأردن وغيرها من البلدان، وقد طالب "مأمون" مجلس الأمن باستصدار قرار بمنع الإتجار بآثار سوريا المنهوبة وتتبعها عالميا. وبهذا التصريح المهم نسأل بدورنا: من المتهم؟!
وهناك تقرير للسفيرة اللبنانية ذكرت فيه أن المخاوف طالت أيضا الآثار الثابتة على الأرض السورية، والمقصود هنا المواقع التراثية بأنواعها، كالأسواق والأحياء والقلاع والقصور التاريخية في حلب ودمشق وإدلب والحسكة، وغيرها، بما تحتويه من قيمة حضارية مهمة. وأن ذلك يشكل مؤشرا خطيرا يهدد مستقبل السياحة السورية مستقبلا.
وفي مناقشات مع نشطاء سوريين، تبنى بعضهم آراء مفادها أن حياة الإنسان أهم كثيرا من قطعة آثار، وأن افتداء حياته وحياة غيره بشراء الرصاص مقابل قطعة أثرية شيء له لزوم وفق الحالة الراهنة. وعلى حد قول آخر أن الثورة قامت ضد النهب والسلب وانتشار الفساد، وأنه يجب على المعارضين لنظام الأسد الامتثال لمبادئ الثورة الأولى والحفاظ على ثروات البلاد. وينكر البعض أن هناك معارضون يقومون بتهريب الآثار من الأصل. وبين الجانبين، النظام والمعارضة، يتم تبادل الاتهامات حول من المسئول الأول عن تبديد الآثار السورية وإهدارها.
وهناك العديد من النشطاء الغيورين على تراث سوريا الثقافي ممن يعملون في الخفاء على توثيق القطع الأثرية الباقية في سوريا، خاصة مواقع إدلب الأثرية التي تقوم جبهة النصرة بتجريفها والاستيلاء على ما تبقى من آثار تحصل من خلالها على المال. هؤلاء النشطاء يعملون بلا خلفية علمية عن طرق التوثيق الأثري، وبعشوائية تعرضهم لخطر الانتقام، ومن وجهة نظرهم أن هذه المحاولات سوف تمكنهم من التعرف على القطع التي تم تهريبها للخارج لاسترجاعها بعد انتهاء الأزمة، ولكن حالات سابقة  تؤكد أن ذلك من المستحيلات، وآثار العراق أكبر إثبات على ذلك.


الأمر جد خطير، يلزمه تحرك واسع من كافة المهتمين بالتراث الثقافي والحضاري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار الباقية على الأرض السورية، باستخدام كافة الوسائل المشروعة لوقف تداول الآثار المهربة بالاتفاق مع المنظمات الدولية والقيام بحث أولي الأمر على استصدار قرارات تحظر بيعها في مزادات أوروبا وأمريكا، أو ما يشبه ذلك من إجراءات يفهمها كل مهتم غيور على آثارنا في سوريا الحبيبة.
لقد عانت العراق من إهدار آثارها بعد سقوط صدام حسين، حتى باتت مشاعا بين أيدي تجار ومهربي الآثار حول العالم، وقد نهبت متاحف العراق تماما وغابت عن الأنظار قطع أثرية مهمة كانت تشكل أهمية في دراسة الآثار العراقية في مختلف العصور. وبعد تلك التجربة المُرة أصبحت مخاوف المثقفين تتجدد الآن حول مصير الآثار السورية بعد تفاقم الأزمة بين المعارضة المسلحة والنظام السوري، ودخولها في نفق مظلم لا نعرف نهايته. ووسط الاتهامات المتبادلة بين الفريقين، حول من يتحمل مسئولية هذا الأمر، أصبحت آثار سوريا ومع أي منهم، مقابل رصاصة.