
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
من ناحية أخرى نجحت إيران التي تعد رابع أكبر منتح للنفط في العالم، في العقدين الأخيرين من بناء ترسانة عسكرية ضخمة ضمت فيما تضم صواريخ بعيدة المدى قادرة، ربما على حمل رؤوس كيميائية والوصول إلى إسرائيل وقواعد أعدائها، وهذا سيناريو مرعب بالنسبة للقوى الإقليمية جميعها. هذه الأخطار دعت إسرائيل دائما إلى تطبيق إستراتيجية تمكنها من ردع إيران إذا ما فكرت في ضربها. وفي هذا السياق تحذر الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أن العمل العسكري لن يثني أي بلد من السعي لامتلاك أسلحة نووية.
على أية حال، يعد هذا المقال محاولة لتقييم المشروع النووي الإيراني، مما يبرز حلم إيران وتطلعها لتحقيق مصالح قوية عن طريق امتلاك قوة نووية يعمل لها حساب على الصعيدين الإقليمي والدولي. ونناقش فيه حيرة المجتمع الدولي بين التفاوض المباشر مع إيران والتفكير دائما في ردع القوة الإيرانية بمعركة حاسمة تكسر شوكتها، وإلى أي مدى يكون الخيار الأمثل هو المعركة العسكرية معها، وهل يمكن لإيران أن تنتصر وما هي مقومات ذلك. كذلك نناقش الغموض الإيراني الذي يقابله على الجانب الآخر من القوى العظمى بعض التعنت، وإلى أي مدى يشكل حلم إيران النووي خطرا على الإيديولوجية الإيرانية ذاتها. ونحاول الإجابة على السؤال الذي دائما يطرح نفسه، وهو ما مدى صدق إيران في تنفيذ برنامجها النووي بعد توقيعها معاهدة حظر انتشار السلاح النووي وامتناع إسرائيل عن التوقيع، ولماذا لا ينظر المجتمع الدولي إلى إسرائيل بنفس المنظور الذي يوجه لإيران.
حينما ذكر الخبير الاستراتيجي البريطاني "فريد هاليداي" في أواخر عهد الشاه، أن لإيران مصالح ولم يعد لها أطماع، وقف الجميع ضده، وكانت رؤيته آنذاك تنبع من اقتناعه بأن حل إيران لمشاكلها مع جيرانها قد جعل أطماعها تذهب أدراج الرياح، فلا مشاكل حدودية مع أفغانستان، وكذلك الحال مع العراق. وقد كفَّ الشاه منذ عام 1970 عن المطالبة بضم البحرين، وكان احتلاله للجزر الثلاث في عام 1971 هو آخر مطلب إيراني بضم الأراضي. وهكذا، فإن باب المصالح بدأ يفتح على مصراعيه، وأصبحت إيران في مرحلة تاريخية جديدة تأمل فيها الوضع الأفضل في كافة المجالات. وبالطبع كانت المصالح الإيرانية تفتح مجالا للتدخل المباشر والغير مباشر في شئون جيرانها. فقد نجحت الثورة الإيرانية وبدأت التصرفات الإيرانية تتسم بالفوضى وعدم انضباط خطوط العلاقات بين الثورة والدولة، وتصورت إيران بأنها يمكنها التغيير حتى في الدول المحيطة، خاصة دول الخليج العربي. وبجانب الأحلام الإيرانية في السيطرة على دول الجوار والهيمنة عليها بشتى الطرق، بدأ حلم جديد يلوح في الأفق، إنه "الحلم النووي"، وقد لا يعرف البعض أن الفكرة النووية الإيرانية تعود في أصولها إلى سبعينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من (لا إسلامية) الأسلحة النووية عند النظام الخامنئي، إلا أن الحرب الإيرانية العراقية أقنعت إيران بأن الدولة تحتاج للسلاح النووي، لأن إيران وجدت أن الرئيس العراقي الراحل "صدام حسين" لا يتوانى عن استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدها، فكانت هذه الحرب هي التي غيرت طريقة التفكير الإيرانية، خاصة تجاه دول الجوار.
ومن المعروف أن دول الخليج العربي أكثر الدول تضررا من وجود قوة نووية إيرانية، والزيارات المتتابعة والكثيرة بين قادة الخليج العربي وإيران، تبرز على الساحة مدى القلق الخليجي من المشروع النووي الإيراني. ومن المتوقع أن يكون بعض قادة دول الخليج العربي قد قاموا بمباحثات دون إعلان رسمي مع إيران في محاولة لإثنائها عن ذلك المشروع، وقد أعلن بعضهم بالفعل وعلى رأسهم قادة المملكة العربية السعودية وبعض كبار الشخصيات الخليجية على طول ساحله صراحة، رفضهم واستنكارهم لقيام أية مشروعات نووية إيرانية، فإن ذلك من شأنه الإخلال بتوازن القوى في المنطقة بأسرها.
على أية حال، فإن الغموض في الموقف الخليجي من مشروع إيران النووي، هو من الحكمة الواجبة، لأن المصالح الخليجية الغربية تتزايد يوما بعد يوم، والمنشآت الغربية بشكل عام تزداد في الخليج العربي، مما يجعلها هدفا مباشرا وصريحا لو تم توجيه ضربة عسكرية لإيران من إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية. والأمر الذي يصر عليه الجميع أن الخليج العربي الآن أصبح بين شقي الرحى، وتدعوه الحكمة الدبلوماسية إلى اتخاذ موقف محايد لا يميل إلى أي طرف من الأطراف.
خيار الردع أم المفاوضات:
في بداية سنوات رئاسة "جورج بوش" الابن, كان السؤال الملح دائما, ما الذي يمكن عمله إزاء إيران ومشروعها النووي, وعلى الرغم من إنها مسألة مصيرية, إلا أن الإدارة الأمريكية أصرت على اتخاذ وضعية الصمت الحذر، خاصة وأن النظام الإيراني لا يستمع إلى أصوات العالم من حوله, مما جعل البعض يصفه بأنه نظام يرعى الإرهاب. ويسيطر عليه بعض المتطرفين الذين يودون تدمير العالم. ومع التغيرات السياسية المتتابعة آنذاك، أعلن "بوش" في 31 أغسطس 2006، إصراره على ردع إيران، والقيام بفرض عقوبات قاسية ضد النظام الإيراني إذا لم تتوقف عن تخصيب اليورانيوم، مؤكدا أن العالم يواجه تهديدا خطيرا من قبل إيران. ويبدو أن "بوش" فتح المجال على مصراعيه لتواجد طويل لقواته في العراق بعد هذا الحديث. وأعلنت وكالة الطاقة الذرية أن إيران لم تعلق أنشطتها لتخصيب اليورانيوم، وصرح مسئول بالأمم المتحدة لشبكة (CNN) أن تقرير الوكالة فتح الطريق أمام فرض مجلس الأمن لعقوبات ضد إيران، وأن المجلس أعطى لإيران مهلة لتتوقف عن مشروعاتها النووية، إلا أن إيران لم تترك مجالا للشك أمام العالم، فهي تتحدى الغرب، وتواصل مشروعاتها النووية.
لقد زعم البعض أن التهديد باستخدام القوة من شأنه ردع إيران وإقناعها بتغيير أساليبها, أو من الأفضل تغيير طابعها السياسي كجمهورية إسلامية. وفي المقابل أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستكون أكثر حكمة في مسألة قبول إيران كقوة إقليمية. وتشجيع العناصر البراجماتية في إطار قيادتها. وكان الأمل في بناء الثقة من خلال الدبلوماسية, حتى أن إيران لن تشعر بعدها بالحاجة إلى وجود نظام ردع نووي. والناتج المثالي لتلك الدبلوماسية هو صفقة جديدة على أساس المصلحة المشتركة, وإقامة عالم أكثر أمنا في الشرق الأوسط. وفي عام 2007، أعلنت وكالة الطاقة الذرية أنها وبعد مجموعة من التحقيقات تأكدت من مستوى العمل النووي في إيران، وأنه لا يرقى لمستوى استخدامه في تصنيع السلاح النووي، ومع ذلك فإن المجتمع الدولي يجب أن يكون مستعدا لكافة الاحتمالات المستقبلية.
وكانت الشهور الأخيرة من إدارة "بوش" قد كسرت السياسة الأمريكية السابقة من خلال إرسال "ويليام بيرنز" المسئول رفيع المستوى بوزارة الخارجية الأمريكية ليتفاوض حول المسألة النووية الإيرانية. حتى أن تلك المباحثات وضعت خططا أولية لفتح "قسم رعاية المصالح الأمريكية" في إيران, أو إيجاد مكتب دبلوماسي لأمريكا في طهران داخل السفارة السويسرية. وكان يمكن لتلك المبادرة أن تشكل خطوة أولى نحو استعادة العلاقات الطبيعية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه في بداية عام 2008، لم تستبعد الولايات المتحدة الأمريكية حتمية القيام بضربة نووية عسكرية ضد إيران، وكان ذلك استنادا لتقارير صدرت عن البيت الأبيض في عام 2002 مفادها أن السلاح النووي يمكن استخدامه في الضربة الأولى ضد إيران. وبحلول منتصف عام 2008, تصاعد الجدل في الأوساط السياسية الأمريكية بهذا الشأن. ولكن الرئيس "باراك أوباما" أعلن عن استعداده لإجراء محادثات مع إيران بلغت حد "الاسترضاء". وعلى الرغم من ذلك شددت وزارة الخارجية الأمريكية العقوبات الاقتصادية على إيران, ولكن هذا الصخب خمد في النهاية.
وفي مواجهة التهديدات الإيرانية، تم طرح مسألة ضرب إسرائيل للنظام الثوري الإيراني عسكريا في نهاية عام 2009، ولكن هذا الطرح كان يبدو مستحيلا بدون مساعدة إقليمية لإسرائيل، وكان يبدو أن هذا من المستحيلات. فإن المنشآت الإيرانية النووية تم توزيعها في أرجاء البلاد بشكل عبقري، كذلك قوة الجيش الإيراني والحرس الثوري تتزايد يوما بعد يوم، فضلا عن الحدود الإيرانية المشتركة مع بعض دول الخليج واشتراكهم في مياه إقليمية واحدة، مما يهدد أمن دول الخليج العربي لو قامت إسرائيل بضرب إيران.
على أية حال، فإن موقف إيران من النشاط النووي دوليا أفضل بكثير من الموقف الإسرائيلي، وعلى الأقل فإن إيران وقعت بالفعل على "معاهدة حظر انتشار السلاح النووي" (NPT) على عكس إسرائيل التي رفضت التوقيع عليها، وهذا يجعل إيران في موقف يجعلها مرغمة على استخدامات سلمية للتكنولوجيا النووية أكثر من استخدامها عسكريا. وكان على المسئولين في أمريكا تقديم النصح لإسرائيل, الدولة التي تشعر بأنها أكثر عرضة لتهديدات المشروع النووي الإيراني إذا تحقق, وكانت النصائح تنصب في مسألة واحدة وهي (الامتناع عن اتخاذ إجراءات وقائية ضد إيران). وكانت تلك التحركات استجابة لنصائح الخبراء الذين دائما ما يحذرون من الخيار العسكري, فإن له مخاطر كبيرة جدا. فضرب إيران جويا من القواعد الأمريكية في العراق وأفغانستان لن يضمن منع إيران من تحقيق مشروعها، وسوف يشعل رد فعل عنيف في المنطقة, ولاسيما العراق.
وفي الواقع جعلت الأزمة الاقتصادية العالمية الأمور تهدأ بعض الشيء, لأن أي تهديد بعدم مد الغرب بالنفط من الخليج العربي سوف يؤخر من إجراءات حل الأزمة، والتجارب المريرة التي مرت على الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات السابقة، والتلويح بالعصا دون استيعاب المخاوف الإيرانية, لم يعمل إلا على تزايد حدة التشدد الإيراني, وتحدي الإرادة الدولية بتسريع برنامجها النووي. وكان الموقف الأمريكي محرجا إزاء ذلك الموضوع, خاصة وأن نجاح حلفاء إيران في المنطقة يتزايد, خاصة حزب الله وحماس, واستهدافهم للمصالح الأمريكية في لبنان وفلسطين والعراق. بالإضافة إلى أن نجاح الديمقراطيون الأمريكيون السابق في انتخابات نوفمبر 2008، جعل البعض يعتقد أنه من الممكن حدوث بعض التحول نحو مزيد من المشاركة. وعلى الرغم من أن الفريق الجديد كان يحذر من تفضيل "أوباما" للعمل الدبلوماسي، إلا أنه كان يرى أن الوقت حان للقاء مع زعماء إيران، وأعلن في مارس 2009 على الملأ في خطاب تليفزيوني أنه يعرض على إيران بداية صفحة جديدة, وفي نفس الوقت يؤكد بأنه ليس مقبولا امتلاك إيران للسلاح النووي, ويصر على أن الخيار العسكري لا يزال مطروحا.
وفي الوقت نفسه, جاء موقف المتطرفون الأمريكيون معاكسا، فهم يحاولون القضاء على سياسة التهدئة في كل أنحاء أمريكا. ولكن صقور السياسة الأمريكية ومن أبرزهم "برنت سكوكروفت" يقولون أنه يجب أن تتاح الفرصة للعمل الدبلوماسي, لا لشيء إلا لبناء الشرعية الدولية, ولكنهم في النهاية أقروا أن للولايات المتحدة الأمريكية القرار في عمل إجراء قوى لإنهاء المسألة الإيرانية. وهناك توافقا في الآراء بين المحللين المحافظين واللبراليين على حد سواء في واشنطن حول إستراتيجية المشاركة مع إيران. وليس واضحا حتى الآن مدى نجاح مثل تلك السياسة, إذا كان الهدف منها هو منع إيران من صنع سلاح نووي, أو حتى لهدف أبعد يتعلق بأمن الخليج العربي، ومستقبل العراق وأفغانستان والسلام بين العرب وإسرائيل. ولكن، وفي مواجهة كل ذلك فإن إيران ستشكل موقفا أكثر صعوبة, فليس لديها أي استعداد لطرح أوراقها على مائدة المفاوضات. وعلى الإدارة الأمريكية بذل الجهد لإقناع إيران بأنها ستحقق الكثير من المكاسب من خلال الحلول الوسط. وأنها ستخسر الكثير بدون الليونة في الحوار الدبلوماسي. ... يتبعالحلقة الثانية ( اضغط )