Responsive Ads Here

السبت، 1 يونيو 2013

كارستن نيبور دانمركي في بلاد العرب



بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..

شغلت المنطقة العربية أذهان ملوك وحكام أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وكان ذلك نتيجة جهودهم المستمرة لإيجاد بدائل وطرق ومراكز تجارية جديدة، خاصة وأنهم كانوا يعتمدون في تجارتهم على البحر. فضلاً عن حاجة الأوروبي لمعرفة تلك الأماكن المجهولة في المنطقة العربية، بعد أن ازدادت بازياد المنشور عن العرب، حتى أصبحت تلك المنشورات دراسات علمية منظمة تأسست لها العديد من المؤسسات التي اهتمت بالشرق وعلومه بشكل خاص.
ومن خلال الرحلات التي نشرها الفرنسيون والإنجليز والهولنديون خلال هذا القرن، فإن العديد من ملوك أوروبا كانوا يهتمون بالمنشور ومتابعة ما تفرزه من علوم ودعمها قدر الإمكان، لأنها وبدقة تخدم أهداف بلادهم الاقتصادية والمعرفية بالتعرف على إمكانيات البلدان الأخرى، ومدى الاستفادة من علاقات تجارية يمكن أن تقوم مع أهلها.
ومن المعروف أنه كان أكثر ملوك أوروبا انفتاحاً وحباً للعلم والمعرفة والفنون، هو الملك الدانمركي "فريدريك الخامس" Frederick Vالذي اقترح عليه أحد وزراءه في عام 1760 أن يرسل ببعثة استكشافية إلى البلدان العربية المجهولة، واكتشاف تلك الصحراء البعيدة من كافة النواحي الفنية والاقتصادية. تلك البعثة التي تألفت من علماء منتخبين، حددت مهمتهم منذ البداية بحيث تتمثل في ضرورة معرفة كل ما يتعلق بجوانب الحياة العربية من عادات وتقاليد واحتياجات وحياة برية وطبيعة أرض. وكان أبرز هؤلاء العلماء هو الدانمركي "كارستن نيبور" Carsten Niebuhr .
"نيبور" ابن أحد صغار المزارعين في "لودنجفورث" Lüdingworth(منطقة تابعة لكوكسهافن بساكسونيا السفلى)، والتي كانت تعرف آنذاك بمقاطعة "فيردن بريمن" Bremen-Verden، وقد عمل في بداية حياته في الفلاحة مع قدر ضئيل من التعليم، والذي وجد البعض أنه يحمل بعض التفوق في مادة الرياضيات التي مكنته من علم المساحة، فاقترح أحد معلميه أن يلتحق "نيبور" بالبعثة العلمية التي سيمولها من ملك الدانمارك "فريدريك الخامس"، والتي كان يتم الإعداد لها لتتوجه إلى مصر والجزيرة العربية وسوريا. وبناء على ذلك عمل "نيبور" على تكثيف دروس الرياضيات خلال العام والنصف التي سبقت البعثة، بالإضافة إلى بعض الدروس في اللغة العربية.
ولقد أبحرت السفينة التي أقلت أفراد البعثة إلى بلاد العرب في يناير 1761، ورست على شواطئ الإسكندرية، ثم استقل "نيبور" مع زملاءه مركبة نيلية توجهت بهم إلى مكان ليستكملوا الطريق إلى السويس ثم إلى جبال سيناء. وفي أكتوبر 1762، أبحرت البعثة إلى جدة ثم براً إلى مكة المكرمة، وعملت البعثة حتى مايو 1763 حيث توفي فيه عالم اللغة "فون هافن" Von Haven ، ولحق به بعد وقت قصير عالم الطبيعة "بيتر فورسكول" Peter Forsskål. وبعد أيام توجه باقي أعضاء البعثة إلى صنعاء – عاصمة اليمن – ولكنهم لم يستطيعوا احتمال مناخها فعادوا إلى مكة المكرمة.
على أية حال، توجهت البعثة من مكة إلى بومباي في الهند، وفي الطريق توفي فنان البعثة بعد أن جرح أثناء السير ثم لحق به آخر، وهكذا أصبح "نيبور" هو العضو الوحيد الذي بقى على قيد الحياة، وقد رجح البعض أن سر بقاء "نيبور" على قيد الحياة أثناء رحلته، هو ارتداءه ملابس عربية تتلائم والبيئة الصحراوية، وتناوله للأغذية المحلية التي تمتاز بتشبعها بالسوائل اللازمة للبقاء في الصحراء.
مكث "نيبور" في بومباي لمدة أربعة عشر شهراً، ثم عاد إلى بلاده عن طريق مسقط، شيراز، بوشهر، ثم انطلق شمالاً، حيث تعرف على بعض النصوص المسمارية في العراق وقام بنقلها، وقام بزيارة أطلال بابل ليقف أمامها بعض الوقت ليرسم العديد من التصاوير المهمة في المدينة، ثم بغداد والموصل وحلب، ومنها جنوباً إلى فلسطين ثم شمالاً مرة أخرى عبر جبال طوروس إلى هضبة الأناضول حتى القسطنطينية في فبراير 1767، حتى وصل أخيرا إلى "كوبنهاجن" في نوفمبر/ تشرين الثاني 1767.
بعد أن وصل "نيبور" إلى وطنه شغل نفسه بأبحاثه حتى قرر الزواج في عام 1773، وهو العام الذي التحق فيه بالخدمة العسكرية، التي مكنته من البقاء في "كوبنهاجن" بعض الوقت. وفى عام 1776 تم انتخابه عضواً في الأكاديمية الملكية للعلوم بالسويد، ثم عمل بالخدمة المدنية في الدانمارك، وذهب للإقامة في "ميلدورف" Meldorf (الآن "ديتمارش" Ditmarsh) حتى توفي في عام 1815.
ولقد كانت ثمرة زواجه هي إنجابه للمؤرخ "بارثولد جورج نيبور" Barthold Georg Niebuhr الذي نشر قصة حياة والده فيما بعد في عام 1817.
كان كتاب "كارستن نيبور" الأول بعنوان "وصف بلاد العرب" Beschreibung von Arabien ، وطبع في "كوبنهاجن" في عام 1772، وقدمت الحكومة الدانماركية الدعم الكامل للكتاب، فقامت بطباعته مع الكثير من الرسوم والخرائط التوضيحية التي رسمها "نيبور" هو زملاءه في البعثة، والتي استطاع أن يحافظ عليها طيلة رحلة عودته الصعبة. وأعقبه في عامي 1774 و1778 بمجلدين بعنوان "رحلة إلى بلاد العرب والدول المحيطة" Reisebeschreibung von Arabien und anderen umliegenden Ländern واحتوى أولهما على نسخ للنقوش المسمارية في "برسيبوليس" (الآن مدينة "تَخْتِ جَمْشيد" الإيرانية، وكانت تلك النقوش هي العامل الأساسي الذي جعل العلماء يكثفون من جهدهم في فك رموز تلك اللغة.
وكان "نيبور" قبل نشر تلك النصوص المسمارية يعتقد بأنها لا تتعدى كونها نقوشاً للديكور أو الزينة. فلم يكن هناك أي دراسات قدمت للناس حتى هذا الزمن، حتى أن "نيبور" كان يعتقد أن ما نقله من رسوم يمثل ثلاثة أشكال مختلفة من المسمارية، وقام بتصنيفها إلى ثلاثة درجات. على أية حال كانت نقوش "نيبور" في كتابه خير دعم للعلماء الذين أخذوا على عاتقهم حل رموز اللغة المسمارية، وأصبحت الدليل لهم حتى تم بالفعل الكشف عن الثلاث لغات الرئيسية في الشرق الأدني (الفارسية القديمة – الأكادية – السومرية).
ساهم "نيبور" أيضاً في كتاباته بإيضاح حالة الدولة العثمانية عسكرياً وسياسياً، ونشر العديد من المقالات في الدوريات العلمية الألمانية، بالإضافة إلى تحرير ونشر أعمال صديقه عالم الطبيعة "بيتر فورسكول" Peter Forsskål الذي توفي في بعثتهم عام 1763، في كتاب باللغة اللاتينية تحت عنوان "أوصاف حيوانات ونباتات وطبيعة مصر والبلدان العربية" Descriptiones animalium, Flora Aegyptiaco-Arabica and Icones rerum naturalium ، وطبع في "كوبنهاجن" عام 1776.
وترجمت لنيبور بعض الأعمال إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، من أشهرهم ترجمة "روبرت هيرون" Robert Heron لكتاب "رحلات عبر الصحراء العربية" Travels through Arabia الذي طبع في لندن عام 1792، ونشرت طبعة منه مرة أخرى في مجلدين بإحدى دور النشر اللبنانية.
من بومباي إلى مسقط:
كانت رحلة "كارستن نيبور" من مدينة بوباي الهندية إلى مسقط العربية على الخليج العربي (الفارسي)، خلال عودته إلى بلاده بعد التجربة التي عاشها داخل أكثر المناطق العربية قسوة، وقد أبدع في وصف تلك المرحلة من رحلته في المجلد الثاني من كتابه (رحلة إلى بلاد العرب والدول المحيطة).
استقل "نيبور" سفينة حربية تابعة للأسطول الهندي للعودة من بومباي إلى الصحراء مرة أخرى، كان ذلك في ديسمبر 1764، وكانت وجهة الرحلة في الأساس إلى مسقط والخليج الفارسي، وكانت أهم ملامح تلك الفترة من الرحلة والتي حاول "نيبور" تدوينها بدقة، هي الحالة المناخية التي كان عليها المحيط الهندي آنذاك، حيث ذكر "إن رياح تلك البقعة ثاربتة، فيستطيع الربان معرفة نوع الرياح وسرعتها في أوقات محددة من السنة دون تغييرات تذكر،..." وفي موضع آخر يذكر: "إن البحار يستطيع خلال أشهر معلومة في السنة أن يبحر باستقامة دون اعوجاج، في طريقه من بومباي إلى مسقط، حتى يصل إلى البصرة دون أن يستخدم شعار السفينة العلوي".
وكان حظ "نيبور" تعيساً كالعادة في رحلته البحرية، فإبحاره لم يكن آمناً، حينما واجهتهم الرياح الشمالية التي حاول الربان أن يتفاداها قدر الإمكان، حتى أنهم من تقلبات المناخ في ذلك الوقت كانوا مضطرين أن يبتعدوا عن الساحل الهندي بدرجتين أو ثلاثة، ومن الطريف أن "نيبور" لم يهمل تدوين ما رآه بدقة أثناء تلك الظروف الصعبة، فكتب قائلاً: "كنا نرى أفاعي مائية صغيرة في المياه من حولنا. وحينما دخلت السفينة إلى الخليج الفارسي كان سطح الماء يشع بالضياء بدرجة بديعة، كان سطح الماء كأنه مغطى بلهيب لمسافة نصف ميل أمامنا".
اعتقد "نيبور" أن تلك الأضواء اللامعة على سطح المياه مصدرها نوع من الأسماك التي تشع ضوءاً في الليل، فذكر أنه "من المحتمل أن يرى المرء هنا حيوانات بحرية تضيء في الليل". وقد دلل على اعتقاده هذا بأنه حينما كان في بومباي رأى في القمامة ضوءاً، وحينما سأل وجدها بقايا أسماك يأكلها عامة الفقراء في الهند. وكان ثمة اعتقاد في أوروبا أن نجوم الشرق لا تتلألأ في السماء كنجوم أوروبا، فكانت من مهام البعثة العلمية مراقبة النجوم وقياس درجة سطوعها، فكان "نيبور" يقضي معظم ليله في مراقبة النجوم فوق الخليج الفارسي، ويصنفها (نجوم مضيئة – مشعة – ساطعة).
كذلك أخذ على عاتقه مراقبة الحياة البحرية، فكان مما لفت انتباهه هي الدلافين البحرية المنتشرة في المحيط الهندي، والتي لاحظ سرعتها في القفز والسباحة، حتى أنها كانت تسبق سفينته التي كانت سريعة بمقياس عصره.
وحينما اقتربت السفينة من الساحل العماني شاهد "نيبور" رؤوس الجبال عند مسقط، ولاحظ هدوء التيارات المائية بالقرب من الساحل العماني، والذي يشتد تدريجيا كلما اقترب من الشاطئ وليس العكس، حتى أن السفينة عادت إلى الوراء في ليلة واحدة ستة أميال. ولقد وصف في رحلته الساحل العماني، وذكر أنه ساحل عمودي غير منحدر، ولكن الماء عميق جدا، فكان عمق المياه عند الشاطئ أكثر من خمسين قدماً. وأخيرا رست السفينة في اليوم الثالث من شهر يناير 1765 على الشاطئ العماني في مسقط، التي كان الجو فيها بارد لا يتناسب مع الملابس الأوروبية التي كان يرتديها "نيبور" منذ خروجه من بومباي، فقرر العودة إلى الملابس العربية مرة أخرى.
مسقط مدينة ساحرة:
لفت نظر "نيبور" تلك التقاليد الغريبة التي يقوم بها أهل مسقط حينما ترسوا سفينتهم على الشاطئ، فيقوم ربنا السفينة بإلقاء المرساة في المياه، ثم ينزل الطاقم لقرع الطبول ورقص رقصة معينة كحالة احتفالية بوصولهم سالمين إلى وطنهم. ومن أكثر الأمور التي علق عليها "نيبور" مستغرباً خلال رحلته هي وجود عاملين فرنسيين لدى أحد أصحاب الزوارق في مسقط، ولاحظ أيضاً شدة فقر أهل مسقط في ذلك العصر، وعزى ذلك إلى الحروب التي توالت عليهم والتي زادتهم فقراً، وجعلتهم يأملون في دنياهم توفير الغذاء والكساء فقط.
وعرف عند تجواله في البلدة أن سكانها من المسلمين الذين يعتبرون القرآن قانونهم، ينتمون إلى طائفة شيعية، يطلق عليهم المسلمون اسم الخوارج، ويذكر "نيبور" ملاحظته حول هذا الاسم قائلاً: "هو اسم مكروه في عمان كالرافضة لدى الفرس، والزنادقة عند الألمان".
ووصف أهل المدينة بأنهم مؤدبون تجاه الغرباء، الذين يسمح لهم بالعيش في المدينة دون إرهاب، وفق قانونهم الخاص وبحرية وهدوء ودون اعتراض لهم، والسماح للغرباء بارتداء ملابس عربية وتقليد أهل البلاد بشكل عادي ودون انتقاد. ولاحظ "نيبور" وجود حانة للهو تقع خارج حدود المدينة تعيش فيه مجموعة من النساء يرقصن ويغنين ويمارسن البغاء، ولقد طلب "نيبور" أحدى النساء لترقص له فوجد أن رقص المصريات أفضل بكثير من هؤلاء.
وتميزت مسقط حالة حضارية لم يرها "نيبور" في كثير من بلدان الشرق، وهي وجود عناصر شرطة تحافظ على الأمن، فلم تكن هناك سرقات وإن وجدت تقابل بالحسم. كذلك لم يكن يسمح لأحد بالمرور في الشوارع ليلاً دون مصباح، وحتى لا يتهرب أحد من دفع الرسوم الجمركية فقد كان لا يسمح لأي مركب الاقتراب من الشاطئ بعد غروب الشمس، فقد كان هناك نظام إداري محترم يدير تلك البلد في ذلك العصر، على عكس ما كان يشاع في أوروبا عن تلك البلاد.
ولقد وصف "نيبور" تخطيط المدينة، فهي المدينة العصرية المحصنة تحصينا منيعا، بصورة طبيعية يدعمها بعض التدخلات البشرية، فعلى جانبي الميناء صخور مرتفعة صلدة، تحمي السفن الراسية في الميناء من تقلبات الرياح. والميناء محمي بقلاع مزودة بالمدافع المثبتة على طابيات، والمدينة كلها محاطة بسور له ثمانية أبراج أغلبها مثبت عليه مدافع، ولاحظ "نيبرو" أن أضعف جوانب هذا السور هو الغربي، والذي يحتوي على أربعة شبابيك خشبية.
ولأن مواطنين مسقط بسطاء ولا يهتمون بالترف المبالغ فيه مثل بقية سكان العالم الإسلامي، فإن بيوتهم كانت سيئة، وذكر "نيبور" أنه كان يوجد بالمدينة مسجدين صغيرين مظلمين، لا يحتويان على مآذن، وكان أفضل المباني في مسقط هو منبى الكنيسة البرتغالية التي أصبحت فيما بعد مقراً للوالي، فضلا عن وجود مبنى ضخم للبضائع. وكان يحيط بالمدينة مساحة شاسعة من أرض استخدمت كحديقة، وصفها "نيبور" قائلاً: "حيقة تضفي نخيلها وأشجارها في فصل الصيف الحار ظلال وارفة باردة منعشة، بحيث نشعر ببرودة وهواء لطيف، أما ما تتسم به من فن وتنسيق فهو أجمل من أن يذكره المرء".
وفي النهاية، وقبل أن نختتم حديثنا عن الرحالة الدانمركي "كارستن نيبور" نود أن نؤكد أنه يعد بأعماله من كبار الرحالة الأوروبيين وأشهرهم، الذين استطاعوا وصف ما شاهدوه بجزيرة العرب سلباً وإيجاباً، فضلا عن تسجيله لرؤيته عن البلدان العربية الأخرى التي قام بزيارتها، كاليمن وفلسطين ومصر والعراق، وأود ان أختتم هذه الدراسة بما ذكره "نيبور" عن أن الأمر الملكي الذي صدر من الملك الدانمركي "فريدريك الخامس" بإرسال بعثة علمية إلى بلاد العرب، تضمن أمراً مباشراً لأعضاء البعثة يلزمهم باحترام مشاعر ومقدسات المسلمين وعدم التعليق عليهم أو المساس بعقيدتهم ومشاعرهم الدينية.

نشر في مجلة دبي الثقافية عدد يوليو 2011