Responsive Ads Here

الأربعاء، 11 مايو 2011

الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل



بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي .. 

قام المركز القومي للترجمة بمصر بإصدار كتاب "الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل" في جزأين، وهو الكتاب الذي ألفه الدكتور "محمد صبري" الشهير بالسوربوني (نسبة إلى جامعة السوربون بفرنسا، والتي حصل منها على درجة الدكتوراه في عشرينيات القرن العشرين)، ذلك الدكتور النابغة الذي أخذ على عاتقه كتابه تاريخ مصر وتوثيقه كواحد من فرسان الرعيل الأول من المؤرخين الأكاديميين الذين وضعوا أسس المدرسة التاريخية الحديثة في مصر، تلك التي اعتمدت المنهج العلمي للبحث التاريخي، وأصَّلت لتقاليد الكتابة الحديثة لتاريخ مصر. 
وقد قدم الأستاذ الدكتور "أحمد زكريا الشِّلق" لتلك الترجمة التي اتسمت بالنضج والجودة، ووضح فيها لمحات من تاريخ المؤلف العلمي حتى حصوله على شهادة الدكتوراه، واستعرض لأهم مؤلفاته في التاريخ الحديث، والتي بالفعل قد ترجم بعضها والبعض الآخر قيد الترجمة بالمركز القومي للترجمة بمصر.
ومن المعروف أن مصر لعبت دورا هاما في السياسة الدولية خلال القرن التاسع عشر، فبعد تقطيع أوصال إمبراطورية "محمد علي باشا" في سنة 1841م، أَدارت مصر ظهرها لآسيا لكي تقوم بدورها "كقوة إفريقية". ولكنها, وللمرة الثانية, اصطدمت في كل مكان ليس فقط بانجلترا - كما حدث في عهد "محمد علي" - بل بأوروپا كلها في هذا المجال الفسيح المفتوح أَمام النشاط الإنساني، أي في القارة الأفريقية البكر، خاصة وأن إسماعيل باشا" أخذ على عاتقه في استكشاف الأماكن المجهولة الإفريقية، لينافس بذلك القوى الأوروبية جميعها ونشاطها في إفريقيا.
والكتاب في جزئيه، يستعرض بالشرح والتفصيل الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل في الفترة (1863 – 1879م)، وكيف كان الصراع الإنجليزي/ الفرنسي آنذاك للسيطرة على مصر وأملاكها الإفريقية.
وقد قسم المؤلف كتابه إلى ستة عشر فصلاً كان محورها كالتالي: جاء الفصل الأول باستعراض شخصية "عباس الأول" وبدايات تدخل القناصل الأجانب في السياسة المصرية آنذاك، وسياسته الخارجية. ومن المعروف أن سوء استغلال الأوروبيين لوضعهم المتميز في الدولة العثمانية أعطى للقناصل الأوروبيين في مصر وسيلة للحصول على حقوق جديدة لهم، ولمضايقة السلطات المحلية دوماً بمطالب مُبالغ فيها جداً لصالح الرعايا الأجانب، وخلق مواقف محرجة للحاكم تهدف للحط من منزلته لصالح القوى الأجنبية. واستمر الوضع كما هو في عهد "سعيد باشا"، الذي استطاع الأوروبيين في عهده جني ثمار العمل القنصلي والحصول على مكاسب حقيقية لبلادهم، وهو موضوع الفصل الثاني من الكتاب. وهو الفصل الذي استعرض المؤلف فيه أوجه النشاط الأجنبي في مصر في عهد "سعيد باشا"، كذلك لمحات من انجازات سعيد الداخلية، وإحصائيات بعدد الأجانب في مصر وأنشطتهم المختلفة.
وفي الفصل الثالث، نجد أن المشروعات الرأسمالية الأوروبية قد أخذت منحنى جديد، عندما نجحت فرنسا في الحصول على حق إنشاء شركة قناة السويس، ذلك المشروع الذي غير تاريخ مصر في العصر الحديث. وبالطبع تكمن النوايا الاستعمارية خلف هذا المشروع، الأمر الذي جعل إنجلترا تعرض إنشاء خط سكة حديد على ساحل البحر الأحمر، مما أدى إلى احتلال جزيرة جوبال في خليج السويس.
وأصبحت مصر مكان جيد لاستثمارات الأجانب، وتعرضت مصر لغزو أجنبي واسع النطاق، ولكنه في تلك المرحلة غزوا اقتصاديا، فربط الغرب مصر بالكثير من القروض المالية، لإحداث مزيد من الهيمنة الغربية عليها، وهو موضوع الفصل الرابع من الكتاب.
وجاءت الفصول من الخامس وحتى الثامن لتوضيح فكرة عامة عن تحول مصر في عهد "إسماعيل باشا"، ورد فعل القوى الأوروبية تجاه هذا التحول. فجاء الفصل الخامس تحت عنوان "المال والتدخل" ليشرح لنا بداية الديون المصرية وسوء نية الدائنين، وإشراف الخديوي عليها، واستعراض إنجازات "إسماعيل"، والتي كانت بدورها سببا في زيادة الديون، مما أدى إلى عرض إنجلترا لشراء أسهم الخديوي. وظلت الأحداث تتوالى حتى كان الحكم الثنائي (الإنجلو/ فرنسي)، ودخول مصر في منعطف سياسي جديد بدءا من عام 1877.
إن موضوع الامتيازات الأجنبية وما ترتب عليه من نتائج خطيرة في التاريخ المصري، قد تناوله العديد من الكتاب، ولكن "محمد صبري" فصله تفصيلا دقيقا في فصله السادس، فشرح صورة المجتمع الأوروبي في مصر، وسلوكيات القناصل الأجانب، وما ترتب على سلوكياتهم، مما أدى في النهاية إلى نشأة نظام الامتيازات الأجنبية، الذي أعطى للأجانب حريتهم الدينية، وحرية الإقامة والتنقل، كذلك حرمة مساكنهم ومزيد من العدالة في المجالين المدني والتجاري، وبراءات الاختراعات وملكيتهم الصناعية الأدبية. وألقى المؤلف أيضا المزيد من الضوء على الإصلاحات القضائية التي قام بها "إسماعيل" في مصر.
وفي الفصل السابع، وضح المؤلف ما تكبدته مصر في مشروع قناة السويس، وطبيعة الصراعات بين مصر والشركة الفرنسية في بداية عهد إسماعيل، وكيفية تعامل الشركة مع العمالة المصرية آنذاك. وبالطبع شرح عوامل النزاع المصري الفرنسي تجاه مسألة القناة وتدخل الإمبراطور نابليون الثالث للتحكيم الذي لم ترض عنه قوى عديدة آنذاك، لقد كانت تضحيات مصر كثيرة في سبيل إنجاح مشروع قناة السويس، ولكن القوى الدولية لم تقدر هذه التضحيات.
وفي تلك الفترة كان ضغط الرأي العام المصري يزداد يوما بعد يوم، خاصة والتيار المعارض الذي كان يتزعمه "جمال الدين الأفغاني" يزداد يوما بعد يوم، وظهور الصحافة الحرة في سنة 1877، ومحاربتها للوزارة الأوروبية التي كانت في مصر، ومواجهتها لضغط أوروبا على مصر بعد إحلال وزارة قومية مصرية محل الوزارة الأوروبية في عام 1879.
ومدنا المؤلف في الفصول من التاسع وحتى السادس عشر، بمعلومات دقيقة تخص موضوع محوري وهو "توسع مصر في إفريقيا، وردود أفعال أوروبا في الفترة (1863 – 1879م).
وبالطبع يجب إلقاء الضوء على موضوع هام، وهو موقف الدول الأوروبية تجاه مشروع التوسع المصري في إفريقيا (موضوع الفصل التاسع)، وإلى أي مدى كان تدخلهم، وحاول المؤلف إعطاء أسباب مفصلة لسياسة مصر في إفريقيا. وفي الفصل العاشر لم يتجاهل المؤلف الموقف الإنجليزي من التوسعات المصرية خاصة على السواحل الشرقية لإفريقيا منذ عام 1866، خاصة وأن مصر بتلك الطريقة تعترض سياسة إنجلترا في إفريقيا. وأدت تلك السياسة التي اتبعها "إسماعيل" في إفريقيا إلى توقيع مصر اتفاقية 9 أغسطس 1877، الخاصة بمنع تجارة الرقيق، وتعيين الكابتن "مالكولم" لضمان تنفيذ الاتفاقية على سواحل البحر الأحمر. وفي الشهر التالي للاتفاق في 7 سبتمبر 1877 اعترفت انجلترا بتطبيق التشريع المصري على ساحل بلاد الصومال حتى رأس حافون.
وفي الفصل الحادي عشر وضح الدكتور "محمد صبري" طريقة إدارة مصر لأملاكها في شرق إفريقيا من سواحل الصومال وحتى هرر، كذلك استعرض لتاريخ المنطقة منذ العصر الإسلامي. فضلا عن استعراضه لكيفية غزو ولاية هرر ومحاولات مصر لتنظيمها.
وبالطبع لا يمكن التطرق للنشاط المصري في إفريقيا دون التطرق لموضوع إدارة مصر للسودان منذ عهد "محمد علي باشا" في سنة 1821 وحتى نهاية عهد "إسماعيل" 1877، وكان ذلك موضوعا للمناقشة في الفصل الثاني عشر. وفي الفصل الثالث عشر عرض المؤلف لإجراءات مصر في تنفيذ اتفاقية إلغاء الرقيق، وإيفاد حملة بقيادة "صمويل بيكر" لمتابعة تنفيذها والقيام ببعض الإجراءات لتفعيل الاتفاقية في أملاك مصر الإفريقية. وبالطبع كان لتدخل مصر في إفريقيا بعض ردود الأفعال، فليس الكل مرحب به في إفريقيا حتى لو كانت مصر، فدب الخلاف بين الحبشة ومصر، وهو موضوع الفصل الرابع عشر.
لقد نجحت إنجلترا في جر مصر للقيام بمغامرات سياسية ومالية بحجة القضاء على تجارة الرقيق، ولكن وعلى الرغم من تنفيذ إسماعيل لمهمته، إلا أن حكومتي إنجلترا وفرنسا مسئولتان عن زيادة الخلاف بين مصر والحبشة، ومشتركتان فيه بطريقة مباشرة، لان الدولتين اعتبرتا أنفسهما من حراس المسيحية في تلك المنطقة، ولا يمكن لقوة مسلمة أيا كانت أن تسيطر على الحبشة. وبالطبع لم تستطع مصر مواجهة تلك القوى مجتمعة، خاصة وأن الفوضى كانت قد تفشت في الجيش المصري والإدارة المصرية على السواء.
وفي الفصل الخامس عشر، عاد المؤلف مرة أخرى ليستعرض دور مصر في محاربة تجارة الرقيق، ولكن هذه المرة في وسط إفريقيا، حينما قامت مصر بإيفاد حملة "جوردون" إلى منطقة البحيرات في الفترة من 1874 وحتى 1876، تلك المنطقة التي كان الصراع المصري البريطاني فيها على أشده، ولكون "جوردون" إنجليزيا فقد ضحى بمصالح مصر في تلك المنطقة لصالح بلاده. وأخيرا وفي الفصل السادس عشر والأخير، يستعرض المؤلف دور "جوردون" في السودان في نهاية عهد إسماعيل (1877 – 1879)، واستعراض المشاكل التي واجهته في السودان، والتي كان أهمها مشاكل المواصلات، وصراعه الفاشل ضد تجار الرقيق هناك، وإلقاء الضوء على جذور الحركة المهدية في السودان.
وهكذا، فإن الدكتور "محمد صبري" قد القى الضوء على النزاع الاستعماري بين دول أوروبا في أفريقيا، وإلى توسع مصرفي وادي النيل والسودان والصومال وهرر وأوغندا وغيرها، وعلاقة مصر بالمشاكل الأفريقية، وما اكتنف هذه العلاقة من عناصر متشابكة لا حصر لها، مالية وسياسية واقتصادية، وفصل لنا هذه الحوادث، ونفخ الحياة في ذلك التاريخ القريب منا بقوة الأسلوب وتوخي أقصي حدود الدقة في أسانيده.
إنه بالفعل لتاريخ مكتمل عن عصر "إسماعيل"، ترجمه لنا الأستاذ "ناجي رمضان عطية" الذي أخذ على عاتقه ترجمة أعمال الدكتور "محمد صبري" (السوربوني)، ومن أهمها كتاب "نشأة الروح القومية المصرية 1836 – 1882م"، وكتاب "المسألة المصرية من بونابرت إلى ثورة 1919"، وكتاب "الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي والمسألة الشرقية 1811 – 1849"، والكتاب الذي نستعرضه الآن، تلك الكتب التي كانت أسيرة اللغة الفرنسية لفترة طويلة حتى فك أسرها "ناجي رمضان" بلغته العربية السهلة، والذي بترجماته تم الكشف عن العديد من الحقائق التاريخية التي تتعلق بمصر، والتي هدف من خلالها المؤلف (السوربوني) إلى العمل على ازدياد الروح القومية لدى المصريين الذين كانوا لا يعرفون أمجاد تاريخهم الحديث حق المعرفة بعد أن عمل المحتل البريطاني على طمسها ببراعة.