Responsive Ads Here

السبت، 9 مارس 2019

في مئوية ثورة 1919 .. ذكرى ثورة هدم مكتسباتها الزعماء


د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
قررت إنجلترا بعد قيام الثورة المصرية في عام 1919 إيفاد لجنة خاصة وإسنادها مهمة التحقيق في حوادثها. ونجحت دولة الاحتلال بموجبها في جر الوفد إلى إجراء مباحثات بعد أن كان الشعب المصري يرفض التفاوض، فلا تفاوض إلا بعد الجلاء. وبالفعل سافر وفد مصري برئاسة "سعد باشا زغلول" إلى لندن لمقابلة وزير المستعمرات البريطاني لورد "ألفرد ملنر". وكان "عدلي يكن" همزة الوصل ورمانة الميزان أثناء المفاوضات، التي تقرر خلالها عمل تحالف مصري بريطاني تعترف به مصر بأحقية دولة الاحتلال في حماية مصالحها في مقابل ترك مسألة حماية مصر للمصريين. وبالطبع أدرك سعد أثناء المفاوضات إنه يجب عليه أن يقدم بعض التنازلات لتحقيق هذا الهدف، ولذلك تردد في قبول هذا الطرح، وصرح بأنه سوف يعرض المشروع بالكامل على الشعب لكي يقول كلمته. وهكذا تم إيفاد بعض أعضاء الوفد إلى مصر لعرض المشروع على الأمة. وانتهى الأمر بموافقة مبدأية مع إبداء بعض التحفظات التي أثارها الحزب الوطني. مما يعني أنه سوف يتم رفضه تماما ما لم يتم التعديل عليه، الأمر الذي رفضته إنجلترا.
في تلك الفترة اتخذ سعد زغلول سياسة مزدوجة، حينما رفض المشروع برمته، ولكن في السر بينه وبين أصدقائه وأقربائه، وفي الوقت نفسه كان يبدي قبوله للمشروع حينما يتحدث إلى الإنجليز بشرط إجراء بعض التعديلات عليه. إلا أنه كان ينظر إلى رأي الشعب المصري كفيصل في القبول أو الرفض، جتى لا يكون الأمر محرجا بالنسبة له، مما يهدد زعامته للأمة.
وكأي ثورة في تاريخ أمتنا العربية، كان للساسة دور مهم في كبت روح الثورة التي قامت على أيدي الشعب وحده دون غيره، فخلال فترة المفاوضات اختلف أعضاء الوفد المصري بشكل واضح جدا، وبدأت تحدث انشقاقات صعبة بعد اعتراض أعضاء الوفد على سياسة سعد المنفردة، فقد كان إحساس زغلول بأنه قائد الأمة سببا رئيسيا في اتخاذه قرارت متعنتة، ولم يلتفت لأي آراء تخالفه بأي شكل، حتى أننا حينما ننظر إلى ذلك الانشقاق الكثيف، نشعر أن سعدا هو الذي انشق عن الوفد وليس العكس، لأن كلمة معظم أعضائه كانت ضد كلمة سعد وحده. حتى أنه حين تم إيفاد مجموعة منهم إلى مصر بشأن عرض المشروع على الأمة، وحاولت تجميل صورة الوفد في لندن بما فيهم سعد، أظهر الأخير كل ما هو سيء في شخصه، وبدأ يطعن في بعض أفراد تلك المجموعة. ولما تعثرت المفاوضات بين سعد وملنر، حاول "عدلي يكن" حل الموقف المتأزم لمصلحة مصر وسعد، لكنه كان يطعن في عدلي لدرجة أن الأمة انقسمت بينهما، فأصبح هناك سعديون وعدليون. الأمر الذي وصل لمواجهات عنيفة في ربوع مصر بين أنصارهما، ولم يحاول زغلول أن يحد من وتيرة العنف الذي حدث بسببه أبدا.
ولما أدرك سعد سنة 1921 أن نية السلطان فؤاد هي تعيين يكن رئيسا للحكومة التي أطلقوا عليها فيما بعد اسم وزارة الثقة، تمهيدا لتوليه أمر المفاوضات رسميا، لاعتباره الصوت العاقل القادر على التفاوض، فضلا عن علاقاته التي تسمح بذلك، شعر أن شرف توقيع المعاهدة سوف يضيع من يده، فقرر تحطيم يكن والحيلولة بينه وبين أن ينال هذا الشرف. وبدأ في إثارة خلاف كبير كان الهدف منه تحطيم عدلي، ذلك الخلاف الذي جر مصر كلها إلى مرحلة تاريخية اتسمت بالتطرف النادر حدوثه. نتج عنها استقالات عديدة من الوفد، وتأسيس أحزاب أخرى مثل حزب الأحرار الدستوريين وغيره، فتفتت صوت السياسة المصرية إلى شعب عديده أمام صوت دولة الاحتلال، وهذا ما أرادته بالطبع.
وكانت النتيجة الحتمية لكل ذلك عدم نجاح عدلي يكن في مفاوضاته الرسمية مع الإنجليز، لأنه فقد السند الشعبي الذي يستطيع به مواجهة تعنت إنجلترا وحسم الأمر. وهكذا تسبب سعد تفتيت وحدة الوفد، والأكثر من ذلك وحدة الأمة المصرية. الأمر الذي سمح لإنجلترا أن تستغل هذا الانقسام وعملت على ترسيخه أكثر لإطالة أمد المفاوضات من أجل التفرغ لتصفية ثورة شعب مصر في غياب قادتها الغارقين في خلافاتهم. وقد نجحت بالفعل في تحقيق هدفها بضرب الوفد واضطهاد قادته وأعضاءه، وتصفية الثورة وإنهاء التفاوض، وإرجاع الموقف للمربع صفر مرة أخرى، وهكذا تم وأد وهدم مكتسبات ثورة الشعب بيد قادتها.