
بقلم: د. وائل إبراهيم الدسوقي ..
مرت ذكرى اغتيال فارس الأدب والصحافة "يوسف السباعي"، دون أن يلتفت إليها أرباب الفن والأدب، مرت وتجاهل أصحاب القلم إحياء ذكراه، والطريف أن أديبنا تنبأ بذلك في مجموعته القصصية "يا أمة ضحكت"، حين قال: "ماذا سيكون تأثير الموت علي، وعلى الآخرين؟ لا شيء. وستنشر الصحافة نبأ موتي كخبر مثير ليس لأني مت. بل لأن موتي سيقترن بحادثة مثيرة". وهو ما حدث بالفعل حينما قتل برصاصات جماعة أبو نضال الفلسطينية في قبرص في 18 فبراير 1978، وما صاحب ذلك من أحداث أدت إلى صدام بين قوة خاصة من الجيش المصري والقوات القبرصية في مطار لارنكا القبرصي، وما نتج عنه من تبعات خطيرة على صعيد العلاقات بين البلدين.
أحب أديبنا مصر إلى حد العشق، شعر بهموم الشعب وحثه على رفض عادات مجتمعه السيئة. كان شجاعا فى نقد المجتمع قبل ثورة يوليو 1952، فحينما كان الضباط يدبرون للثورة في السر، كان السباعي يعمل على تحفيز الناس على الثورة بقلمه في العلن، دون خوف من بطش النظام الحاكم. فعبر عن حاجة المجتمع إلى التغيير مستغلا كل طاقاته الفنية ووسائله الأدبية. وتكاد تكون روايته "أرض النفاق" التي نشرت عام 1949 منشورا ثوريا كاملا، تمكن به خلال ظلام وفساد وتعفن نظام معاهدة 1936 الذي كانت تعيشه البلاد من أن ينتقد أوضاعها انتقادا ساخرا صعبا مبشرا بالثورة على ذلك كله.
وانتقل السباعي بعد الثورة إلى نمط من الرواية يصور الحياة الشعبية بكل ألوانها ومظاهرها، وتعد روايته "السقا مات" المنشورة عام 1952 عصيرا شعبيا رائعا يسجل العادات والتقاليد ومظاهر الحياة المختلفة التي سادت أحياء القاهرة في مطلع القرن العشرين. ولا نبالغ لو قلنا أنه تفوق كثيرا على أدب "نجيب محفوظ" في الوصف والحبكة وعمق تحليل النفس البشرية والخوض فيها بجرأة ممتازة. حتى تجربته الوجدانية اختلفت كثيرا عما تناوله الغير في أعمالهم، فعلى سبيل المثال يذكر النقاد أن روايته "بين الأطلال" التي صدرت عام 1952 عبرت عن تجربة وجدانية عكست كل معاني الحب وتشريح العواطف الإنسانية وتصوير أهواء النفوس والقلوب، فصور في روايته أدق معاني الحب والعواطف البشرية في تقلبها وثورتها، وأهواء القلب ونزوح الروح. وفي رواياته وأعماله القصصية ومسرحياته تأريخ كامل لثورة يوليو وأحوال المجتمع قبلها، وما طرأ من تغيرات على المجتمع بعدها، فتوغل في أعماق الشارع المصري لينقل للقارئ كل ما فيه من متناقضات ومتاعب وهموم وأفراح وموت وحياة.

كيف يتجاهلون إحياء ذكرى السباعي الذي اختلف كثيرا عن غيره من الأدباء، باستخدام الخيال الفني كإطار لنقده الاجتماعي، فحاول ربط الخيال بالتفكير الفلسفي، بطريقة لا تستهدف تغريب القارئ وإمتاعه فحسب، بل كوسيلة ينفذ منها للنقد الاجتماعي وتعرية البشر لمعرفة حقيقتهم الجوهرية. كما استخدم الرمز كسبيل يعمق به رؤيته الفنية، فيحاول من خلاله أن يجعل الشخصية تتخطى في أعماقها البعد الاجتماعي. ولصعوبة تعامله مع النقاد، وصفه البعض بأنه صاحب "جمعية قتل النقاد" على وزن عنوان مسرحيته "جمعية قتل الزوجات"، نظرا لأسلوبه اللاذع في نقد النقد نفسه. وبذلك يكون أدب "السباعي" مدرسة متكاملة تعكس كل ألوان الكتابة.
قد يكون سبب تجاهل أصحاب الفكر والقلم لإحياء ذكرى وفاته أنه مات منذ ما يقرب من أربعة عقود، ولم يعاصره الجيل الحالي من رؤساء ومدراء تحرير الصحف والمجلات الثقافية المصرية، فلم يلتقونه ولم يحملوا داخلهم ذكريات شخصية عنه يستعرضونها ويتفاخرون بها، فلن يمكنهم اتخاذ إحياء ذكراه ملاذا آمنا لعرض أنفسهم كمقربين له ويحملون أسراره، أو أن أدبه لا يروق لهم، أو لأنه لم يحصل على جائزة يتفاخرون بها بين الأمم.
لم يفرد له أحد مسئولي الصحف صفحات تتحدث عن تجربته الأدبية كما يفعلون مع غيره، ولم تخصص الهيئات الثقافية ندوات تناقش أعماله وتعرف به، ولا أصدرت له هيئات النشر الرسمية طبعات جديدة من أعماله، لكي يتعرف عليها الجيل الجديد ويتعلم منها. إن تكريم الأدباء والعلماء من سمات تحضر الأمم، والدول التي تسعى جاهدة للتشييد الحضاري هي التي تحسب حساب هؤلاء، فلا تتجاهلهم في حياتهم ومماتهم.